الشهيد محمد يوسف هوّاش




الشهيد محمد يوسف هوّاش

ظل محمد هواش يعيش مع زوجته فى المنيل وكان يقطن فى العمارة التى يقطن بها السادات وقد عرفه كل رجال المباحث ورجال المخابرات المكلفين بحراسة منزل السادات، حتى حدثت حادثة المنشية عام 1954م لتمكن لعبد الناصر من الحكم فاجتاحت البلاد تعتقل كل من تصل إليه أيدهم وكان هواش أحدهم فذهبوا إلى بيته لاعتقاله وانتظروا عودته ليقبضوا عليه غير أنه عندما وصل إلى مدخل المنزل أشار له الحراس المكلفين بحراسة السادات أن المباحث فى الشقة للقبض عليه ويجب أن يهرب واستجاب فعلا وهرب مدة عشرة أشهر، ولم تتمكن أجهزة عبد الناصر من القبض عليه عندما ذهبوا للقبض عليه واختفى الشهيد هوَّاش، ولكنه أخذ ينظِّم من بقي من الإخوان خارج السجون وأخذ يقودهم، واستطاعت أجهزة الأمن أن تكتشف نشاط هوَّاش الجديد، فألقت القبض على التشكيل، وتمكَّن هوَّاش من الإفلات للمرة الثانية.
وأخذ يشكِّل تنظيمًا آخر من شباب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات، وكان هذا التنظيم الأخير من أجل تمويل أُسَر المسجونين التي لا عائل لها، وفي هذه المرة ألقي القبض عليه قدرًا"، وأثناء هروبه كان يتحايل لرؤية زوجته فتقول : كان يتصل بى خفية وكان بيننا اتفاق حيث إننى مراقبة وكان يسير ورائى دائما مخبر فكنت أخرج أنا وإحدى الأخوات ونذهب إلى المحطة حيث نقابل محمد فكان يسير عكس ما كنت أسير حتى نرى بعضنا ولا يشعر المخبر بما يحدث.
قبض عليه في 4/8/1955م، وقُدِّم للمحاكمة أمام محكمة الشعب في أكتوبر 1955م، وحُكِم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة، ونفِّذت العقوبة في ليمان طرة، وقضى المدة كلها في مصحة طرة؛ لأنه مريض بالصدر منذ سنة 1947م
وقُدِّر له أن يشهد مذبحة الإخوان في ليمان طرة في 1/6/1957م، والتي قُتِل فيها 21 من شباب الإخوان وجُرِح فيها مثلهم وفَقد 6 منهم عقولهم من هول المأساة الرهيبة، وسجَّل عنها يوميات كُتبت على ورق كانت تُلفُّ بها الجبنة، ثم تنظف وتجفف ويكتب عليها وتسرب إلى خارج السجن يومًا بيوم، ثم نُشرت تحت عنوان "يوميات الشهيد محمد يوسف هواش"، وكان يتصل بزوجته عن طريق أحد الفراشين فى السجن وكان يدعى أحمد حيث كان أحد التلاميذ فى الفصل التى كانت تدرس له زوجته وبعد تخرجه التحق بهذا العمل وأصبح يحمل لها الرسائل منه،
وقد جمعت بين يوسف هواش وسيد قطب،توأمة المحبة والأخوة في الله ، فصدق فيهما قول رسولنا القدوة "ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه".. كما جمعت بينهما وحدة الفكر والفهم والتصورات للإسلام والدعوة والحركة، كما جمعت بينهما مستشفى ليمان طرة التي عاشا فيها معًا فترة الاعتقال الأولى كلها، من أغسطس 1955 حتى أغسطس 1964، وفي الختام جمعت بينهما الشهادة التي نالاها معًا فى يوم واحد. وخرج من مصحة السجن في أغسطس سنة 1964م بموجب عفوٍ صحيٍّ".
خرج محمد يوسف هواش من المعتقل وتوجه لزوجته وأولاده، ثم سرعان ما حمل أهله وتوجه لزيارة أهله فى بلدته وصلا لرحمه ولم تمض الأيام كثيرا حتى أعلن عبد الناصر عن اكتشاف تنظيم للإخوان وأطلق يد المباحث الجنائية العسكرية والمباحث العامة فى السباق فى اعتقال وتعذيب الإخوان بحجة الكشف عن هذا التنظيم، ولم تكن هناك جريمة ارتكبوها يُعاقب عليها قانون أو تشريع، وإنما هي كما قال كبيرهم أسباب سياسية كان غرضها استئصال الدعوة والدعاة (الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) (آل عمران: 271).
وحاولت الحكومة أولا أن تقضي على الظاهرين من الدعاة باغتيالات فردية، وابتدأت المحاولة بالحاجة المجاهدة (زينب الغزالي) إذ داهمت سيارة كبيرة للمخابرات أو بإيعاز منها سيارتها وكسرت رجلها، ومكثت على إثرها عاما كاملا في المستشفى، وانتشر الخبر بأن المخابرات جادة في قتل سيد قطب، و زينب الغزالي، و محمد قطب، و محمد هواش فنكلت المخابرات عن خطتها.
أخذت العربات تجوب البلاد فى أكبر حملة اعتقال شهدها التاريخ الحديث فلم يحدث قبلها أو بعدها حملة كمثل هذه، وكانت بدايتها بإعلان من الكرملين معقل الشيوعية باعتقال كل من سبق اعتقاله، وكان الشهيد محمد يوسف هواش -رغم مرضه- أحد الذين طالهم هذا الإعتقال مع أنه لم يمر على خروجه العام
فلما دخلنا القفص وحضر من يسمونهم القضاة، نادى الدجوي أسماءنا واحدا واحدا سائلا كلا منا : هل لك اعتراض على المحكمة؟ .
ويجيب الأخ : ليس لي اعتراض على الأشخاص ، ولكنى أعترض على القانون الذي نحاكم به لأنه قانون جاهلي، ونحن لا نحتكم إلا لشرع الله ونصبت المحاكم وعندما سأل الدجوي الإخوان: هل لك اعتراض على هيئة المحكمة؟!
أجاب الشهيد سيد قطب: "لا أعترض على أشخاص المحكمة"، وكانت إجابة الإخوان مثل ذلك، إلا الشهيد محمد يوسف هواش وقف وقال: إنني كمسلم ومن وحي عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أُحاكَم إلى المحكمة لا تَحكمُ بمَا أنزل الله.. وهذه هي عقيدتي.
لم تستمر المحكمة كثيرا حتى أصدرت حكم الإعدام على الثلاثة:
1 : الاستاذ سيد قطب
2 : الشيخ عبد الفتاح إسماعيل
3 : الاستاذ محمد يوسف هواش
وفى ذلك تقول الحاجة زينب الغزالي: كان لا بد أن يصدر حكم الإعدام على الأستاذ سيد، وعلى تلميذه محمد يوسف هواش وعلى الشيخ عبدالفتاح إسماعيل، قال سيد عند صدور الحكم: (الحمد لله لقد جاهدت مدة خمسة عشر عاما حتى نلت هذه الشهادة)، وقال الشيخ عبد الفتاح: (فزت ورب الكعبة).
لقد ملك كل واحد منهما بصبره العجيب القلوب، حتى قلوب جلاديه، فلقد كان ضباط الحربي يقولون للشيخ عبد الفتاح: والله إن هذه البلد لا تستحقك، فأنت درة ضائعة في مصر.
تقول الحاجة فاطمة عبد الهادي :" حكم على زوجى محمد يوسف هواش بالإعدام مع الشهيدين سيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل، وحضرت الجلسة الأخيرة، وسألت الشهيد سيد قطب: هل سينفذون حكم الإعدام؟ فرد عليها:
"إن كنا أهلا للشهادة هينفذوا، وإن لم نكن أهلا لها لن ينفذوا"، وقبل تنفيذ الحكم زرت زوجى في السجن الحربي، وتقدمت بتظلم من الحكم لرئيس الدولة، كما تقدم أيضًا أخوه الحاج أحمد بتظلم، لكنى فوجئت في الصباح وعلى صفحات الجرائد خبر يقول : "نفذ فجر اليوم حكم الإعدام في كل من سيد قطب إبراهيم و محمد يوسف هواش و عبد الفتاح إسماعيل "، فما زادنى ذلك إلاايمانا واحتسابًا لله، وعندما استكتبنى ضابط قسم مصر القديمة قرارا يعلمنى فيه بتنفيذ الحكم بكيت فقال لى: "إن الذي في باطن الأرض أمثال من أعدموا خير ممن على ظهرها"، ولم يُسلم زبانية هذا العهد الجثة لى".
رفض الشهداء سيد قطب و محمد يوسف هواش و عبد الفتاح إسماعيل أن يستنقذوا حياتهم بالاعتذار إلى قاتلهم، وتم إعدامهما.
رفض الثلاثة أن يستذلوا أنفسهم من أجل حياة وهم على يقين من أنها لا تعادل جناح بعوضة عند خالقها سبحانه وتعالى، كانوا يعرفون أن المحكمة التي حاكمتهم برئاسة الدجوي كانت أظلم المحاكم في التاريخ.
ولم يكتف عبد الناصر بإعدام هؤلاء الشهداء لكنه أصدر قرارا قال فيه :"لا يخرج واحد من الاخوان من السجن, من أنهى مدة السجن ينقل إلى المعتقل".
وفى خطاب يرسله إلى ابنته سمية يقول لها فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
سمية.. ابنتي.. وفلذة كبدي.. وروح الفؤاد
سلام الله عليك يا بنيتي حيث أنت الآن، وحيث ما تكوني إذا قدر الله لك أن تكبري وتقرأي هذه النصيحة الخالصة لوجه الله، المهداة لأحب خلقه إلي وآثرهم لدي.
أمك المؤمنة الصادقة الحبيبة جاءتني بليمان طرة بهذا المصحف الشريف، ورغبت إلي في أن أقدمه إليك في عيد ميلادك كما يقولون! وأصارحك يا بنيتي بأني لا أعترف بهذا العيد ولا أقره، لأني لا أجده في هذا المصحف، ولا في سنة من أنزل عليه وعلينا، وكل ما ليس في هذا المصحف ولا في سنة الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية.. هذا عيد الميلاد، وذاك عيد الأم، وعيد الثورة، ثم عيد الدستور، وشم النسيم، كل ذلك، وكل أمر الناس اليوم جاهلية.. وما كان لأبيك يا سمية الذي أسلم وجهه ودينه وكل أمره لله أن يتورط في جاهلية قومه إلا أن يشاء ربه شيئًا (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الأعراف: 89]، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإني أرجو يا سمية أن تشعري أنه ليس هناك أمر من أمور هذه الدنيا يستحق أن يحتفل به لذاته، ومن هذه الأمور وعلى رأسها ميلاد الإنسان نفسه، فالشأن فيه موقوف على ما بعده، والعبرة بما تكون عليه حياة المولود من قربه من الله تعالى أو بعده عنه سبحانه.
ولقد انبلجت هذه الحقيقة، وشع نورها من القلب الرباني الخالص، قلب الخليفة الراشد الهادي المهدي ترجمان العارفين ولسان الصادقين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يوم وقف ممسكًا بلحيته الشريفة وهو يرتعد من الله فرقا ويمتقع وجه الكريم خوفا فيقول: "ليت عمر لم تلده أمه".. أدرك عمر الحبيب أن ميلاده بداية تنتهي به إلى يوم الحساب، يوم يسأل فيه الصادقون عن حقيقة صدقهم (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب: 8] ، والصادقون في أعلى مراتب البشر، فكيف بغيرهم؟!!
هذا هو عمر بإيمانه ومعرفته، ولكن الناس اليوم يحتفلون بالحياة، أي حياة! وصدق الله العظيم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 96]، على أني مع هذا لا أجد مانعًا من أن أقدم إليك هذا المصحف في مناسبة خليقة بالاحتفاء والتعظيم، ذلك هو شهر رمضان المعظم، الذي أنزل فيه هذا الكتاب.. وهنا تمتلئ النفس ويفعم القلب، وتستعجم العبارة.
ولا أجد ما أقوله إلا وصية أبي وأبيك إبراهيم، وقد حكاها الله تعالى في قوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132].
الإسلام يا سميتي الحبيبة إسلام النفس والوجه والأمر كله، أمر الدنيا والآخرة لله رب العالمين، وهذا الحق مركوز في فطرة الإنسان من أول الخلق، بل في فطرة الوجود كله، سمائه وأرضه، وما بينهما، وكل شيء شاء الله بعد..
وفي هذا الكتاب الكريم يا بنيتي تفسير هذا الحق وتفصيل كل شيء.. فدونك يا سمية وصية أبينا إبراهيم الأواه الحكيم، وسنة نبينا المصطفى الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
واذكري أباك وأمك يا سمية بالدعاء الصالح. والسلام عليك يا بنيتي ورحمة الله وبركاته.
ليمان طرة في السادس والعشرين من رمضان 1376هـ
أبوك.......................
فأجابته ابنته سمية بخطاب جاء فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
أبي العزيز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته – وبعد
أبي إني أكتب لك هذا الخطاب بعد أن صليت العشاء، أبي إن الله أعطاني نعمة عزيزة عليّ جدًا أحسن من الدنيا كلها هي الصلاة وطاعة أمي.
أبي أحب أن أقول لك إني عندما أقابل الله الخمس مرات بأدعو وأنا ساجدة إن يا أبي يفرج عليك الله وتيجي معانا البيت ونعيش في سرور.
وأحب أن أقول لك إن أمي عملت لي طرحة جميلة للصلاة وجنلة طويلة والجميع يسلمون عليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
5جماد أول 1383هـ = 23 سبتمبر 1963م
ابنتك: سمية محمد
بهذا ختم الشهيد محمد يوسف هواش حياتة بالشهادة التى كان يرجوها من الله
وقد قرات كلمات لزوجة الشهيد هواش فسطرتها فى نقاط مختصرة فى رسالة لزوجتى ونقلتها هنا بين يدى قصة الشهيد

زوجة الشهيد فاطمة عبد الهادي
لكل ثورة ضحايا والضحايا الذين أعدمهم جمال عبد الناصر كانوا من خيرة أبناء مصر ولم تكن تهمتهم إلا أن قالوا ربنا الله.
وكان أخي قد انضم للإخوان وقتها فشجعني على الذهاب ومن هنا تحجبت.
وذهب الشهيد محمد هواش للإمام حسن البنا وطلب منه أن يرشح له فتاة تقف له سنداً وهو في المعتقل فرشحني الإمام له وفعلاً تقدم لي الشهيد محمد.
كانت هناك أكثر من محنة في بداية زواجنا ولكن الشهيد محمد يعلمني الصبر في أصعب الابتلاءات وعلى سبيل المثال كان الشهيد يتحدث في خطبة أحد أخوانه فسقط مغشياً عليه وكان الدم ينزل من فمه وأخبرنا الطبيب من أنه يعاني من تليف في الرئة وبدأت الضغوط علي لكي أتركه لكني كنت قد وضعت أمري بين يد الله واختارته زوجي وأعلنت أني لن أتراجع حتى لو أصبحت ممرضة له طوال حياته، وعرفت من الشهيد محمد بعد ذلك أن سبب هذا المرض أنهم كانوا يملئون المعتقلات بالماء ويضعون الإخوان بها مما سبب له التليف في الرئة بهذا الشكل.
ومن المحن في بداية زواجنا فصل محمد من عمله لكنه بعد فترة قصيرة وجد عمل وفي مكان أفضل.
رفض الشهيد الهروب من مصر وقتها مثلما العديد من الإخوان.
وبعد فترة كنت ذاهبة لتوصيل الفطير الذي أعده للمعتقلين فحصر رجال عبد الناصر عمارتنا وقد كان السادات يسكن معنا في نفس العمارة وحاول الضباط اعتقالي فناديت على السادات الذي كان موجوداً في شقتي وقد علق لافتة على باب العمارة مكتوب عليها (ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد) ونزل السادات ونظر إلينا واستقل سيارته وهرب وبعد تصميم مني قرر رجال المباحث ألا يعتقلوني لكن وضعوا لي مخبراً يلازمني في أي مكان أذهب إليه.
ولم يمر يومان حتى جاء رجال المخابرات ومعهم عساكر مخمورين وقاموا بتحطيم الباب وكان عمر سمية ابنتي عامين وأختي كاميليا انتابها فزع ودخلوا علينا بهمجية ودفعني أحد الضباط وأنا حامل لاصطدم بالحائط وبدأوا بتفتيش الدواليب وكان خلال ذلك دائماً يسرقون كل ما يستطيعون سرقته من الشقة.
أثناء فترة هروب الشهيد محمد كان يتخفى في هيئة زبال أحياناً ويأتي البيت وتكون لحظات اللقاء قليلة لكن يبث في الأمل بكلماته الحانية ويذكرني بتعهدنا وشوقنا للجنة وأن هذا طريقنا طريق الدعوة الذي ارتضيناه كذلك كنت ألقاه كثيراً أثناء خروجي للعمل ويكون المخبر معي ولكن الله يعميه واذكر أني لقيته مرة في القطار وكان المخبر معي وحادثته وأعطاني رسالة ورقية.
عندما اعتقل زوجي كنت ناظرة بمدرسة المنيرة فأعادوني مدرسة مرة أخرى وبعد فترة تم نقلي إلى كفر الشيخ وأعتقد أنها كانت المرة الوحيدة التي بكيت فيها خلال رحلة المعاناة في العمل فقد كنت مضطرة لترك أولادي في القاهرة ولم يكن في وسعي ترك العمل لأنه لم يكن لنا أي مصدر غيره.
وأذكر أنهم نقلوني مرة لمدرسة أحداث وكانوا يقفذون من الشبابيك للهروب من المدرسة وأخلاقياتهم كانت سيئة ودرست لهم مدة ثلاث سنوات لاكتشف بعد ذلك أن من بينهم من أصبحوا أخوة كباراً ففي مرة طرق شقتي شخص وعندما فتحت الباب عرفته من وجه فقد كان أحد تلامذتي وأخبرني أنه أحضر لي رسالة من زوجي عندما قابله في أحد الممرات في السجن وقد كان معتقلاً معه وأصبح هذا الأخ هو الذي ينقل الخطابات بيننا فيما بعد.
كانت هناك محاولات لاعتقالي وكانوا يعتقلوننا خلال أحداث مجزرة طرة عندما ذهبت مع الأخت حميدة قطب أخت الشهيد سيد قطب لاستكشاف ما حدث فقد كانت الدبابات والمدافع مصوبة ناحية السجن وقد أسفرت المجزرة عن 16 شهيد وعشرات الجرحى ولكننا نجحنا في الهروب.
أما اعتقالي فقد كان من البيت وقد كان البرد شديداً وأعاني من نزيف حاد فطلبت منهم أن أحضر ملابسي فرفضوا وانتقلت للسجن مع بعض الأخوات لنلقى معاملة سيئة للغاية ونبقى بلا علاج حتى أني أذكر مرة كيف دفع ضابط إحدى الأخوات وكانت حاملة فتوفيت فأما أنا فتركوني حتى تدهورت حالتي الصحية تماماً واضطروا لنقلي للمستشفى تحت رقابة عسكرية وخلال ذلك صدر قرار بالإفراج عنا.
كما أذكر أن السيدة سألتني عن اسم ابني لكي تسمى ابنها بي وعندما جاء الضابط وسألها ماذا ستسمي ابنها فقالت له (أحمد جهاد) فهو اسم مركب فدفعها الضابط قائلاً جهاد في عينك يا بنت .....؟؟؟ انتوا مش هتبطلوا جهاد فسمى الولد باسم عادل.
كان اللقاء الأخير بيني وبين الشهيد محمد عقب خروجي من المعتقل بفترة فذهبت لزيارته ووقتها حدثني قلبي بأنها آخر مرة سأراه في حياتي وجاء الضابط بمحمد يمسكه بملابسه يدفعه حتى سقط أمامي وأمام أولاده على الأرض وكانت ملابسه ممزقة من الكلاب البوليسية وأثار التعذيب واضحة على جسده ورفض الضابط أن يجعله أن يأكل من الطعام الذي أحضرته له وعندما بدأت أصرخ في الضابط قال لي الشهيد محمد إنه صائم منذ دخوله السجن وهو صائم اليوم أيضاً فقال له الضابط ستندم وجلس أحمد ابني على رجل والده وسأله قائلاً هل يريد عبد الناصر أن يقتلك ... فقال له محمد: الموازين مقلوبة وستبقى مقلوبة حتى يوم القيامة وودعناه بعد أن أخبرني أن معه الشيهد سيد قضب والشهيد عبد الفتاح إسماعيل، وفي اليوم التالي وجدت الجريدة على شراعة الباب وعلى الصفحة الأولى خبر إعدام الشهيد فجر هذا اليوم لم أبكي وطلبت من الله أن يأجرني ويلهمني الصبر وعندما جاء طوسون أخو الشهيد محمد وكان يبكي فطلبت منه البقاء معنا لأن المباحث قد تحضر لنا جثة الشهيد وليس معي أي رجل في البيت وكان حولي الأخوات جميعهن وحضر رجال المباحث وطلب مني الضابط أن أكتب تم فجر اليوم تنفيذ حكم الإعدام في ..... وكتبت أسماء الشهداء ولم أبكي منذ إعدام زوجي إلا لحظة كتابة اسمه، فقال لي الضابط لا تبكي فمن هم بداخل الأرض في هذه الأيام أفضل من الموجودين على ظهرها ولم يكن هناك عزاء ولم نتسلم جثته ولا أعرف حتى الآن أين دفن الشهيد.
سمية ابنتي كانت تعايش هذه الأحداث بانكسار ولم تخرج من هذه الحالة إلا عندما كبرت فقد كانت لا تتكلم كثيراً بل تكتم الأسى داخلها ... اما أحمد فقد كان يعبر بشدة عما يعانيه حتى إنه كان أحياناً يلعن عبد الناصر ويدعو عليه ونحن داخل السجن فيبكي العساكر لأجله ويطلب من أبيه أن يقتحم السجن ويخرج فقد كان ثورياً بطبعه وقد عايش وفاة والدتي أثناء اعتقالي وبعد خروجي من المعتقل لم يخبرني خوفاً علي وقام برعاية أخته سمية أثناء فترة اعتقالي خصوصاً عندما  أصابها المرض وتقبل استشهاد والده بقلب قوي صامد وكان عمره حين ذاك عشر سنوات.
واستمرت معاناتي حتى بعد استشهاد زوجي فقد ساعيت السفر باولادي إلى قطر والتدريس هناك وبعد أن حزمنا حقائبنا منعتنا المباحث من ذلك وذهبت إلى وزارة الداخلية لاشتكي فقالوا لي لا تحاولي فالقرار من عبد الناصر نفسه ولكن في عام 1981 سافرت مع ابنتي سمية وزوجها إلى السعودية وقضيت 14 عاماً هناك وانتقلنا من جدة إلى مكة وكنت أقضي كل عام بين الحاج والعمرة وحفظ القرآن وكانت هذه هديت الله لي بعد معاناتي في مصر.
ومازالت رسائل زوجي الشهيد كنز معي أحتفظ بها وتذكرني بما عايناه أنا وزوجي وتصبرني حتى موعد لقائنا بالجنة فأذكر أنه قبل اعتقاله طلب مني مصحفاً قبل أن يذهب للمعتقل فلم أجد إلا مصحف أحمد ابني واعطيته له ووعدني انه سيرده إلي وأعدم الشهيد وسافرت إلى السعودية ونسيت أمر المصحف ومن فترة ليست ببعيدة وجدت المصحف هو هو على دولابي وسألتي زوج ابنتي فأخبرني ان الشهيد اعطى المصحف لأحد الإخوان الذين خرجوا من المعتقل وطلب منه أن يوصله لزوجته وعندما خرج الأخ سافر إلى النمسا وأعطاه لأخ أخر كان مسافراً إلى مصر والأخ الآخر أعطاه إلى والدته التي كانت مسافرة إلى السعودية وسألت عني وأعطته لزوج ابنتي الذي أحضره فقد كان موقفاً رائعاً عندما فتحت المصحف بعد ثلاثين سنة تقريباً لأجد به رسالة من زوجي الحبيب قبل اعدامه مباشرة.

إقرأ أيضا : الشهيد كمال السنانيرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق