الأستاذ سيد قطب
في ظلال القرآن عشت أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد. إنه إنسان بنفخة من روح الله (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض (وسخر لكم ما في الأرض جميعا)
ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والعلو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة.. جعلها آصرة العقيدة في الله. فعقيدة المؤمن هي وطنه وهي قومه وهي أهله ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما يتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج..
والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان انه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم ׃ نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ( و إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمان من قديم يواجه كما يتجلى في ظلال القرآن مواقف متشابهة وأزمات متشابهة وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكرّ الدهور وتغيّر الزمان وتعدد الأقوام يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد
ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو مطمئن الضمير واثقا من نصر الله متعلقا بالرجاء فيه متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من لرضنا أو لتعودنّ في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكنّنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي) موقف واحد وتجربة واحدة وتهديد واحد ويقين واحد ووعد واحد للموكب الكريم... وعافية واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد.
استشعار الهدوء النفسي .. الاطمئنان إلى رحمة الله
في ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة (إنا كل شيء خلقناه بقدر) .. (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) وكل أمر بحكمة ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تنكشف للنظرة الإنسانية القصيرة (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) ..(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون) .
والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها . ذلك انه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ لاثار والنتائج كما تنتج الأسباب والمقدمات سواء (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) .. (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله).
والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وحكمته وعلمه هو وحده الملاذ الامين والنجوة من الهواجس والوساوس (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم). ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس مطمئن السريرة قرير الضمير. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر .
عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت استشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) .(وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير). (والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون).( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) .(فعّال لما يريد)... إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة والله يخلق ما يشاء ويختار..
كذلك تعلمت أن يد الله تعمل ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وانه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئا فالمنهج الإلهي موضوع ليعمل في كل بيئة وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض أخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته وقوته وضعفه وحالاته المتغيرة التي تعتريه .
إن ظنّه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدرته وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرّة قلم.