رمضان فى المعتقل




شهر رمضان فى المعتقل
من مذكرات خالد حربى

عكس الدنيا جميعا كان رمضان لنا في معتقلات مبارك شهر تجرع الالام واجترار الاحزان حيث يتذكر الجميع إجتماع أسرته التي حرم منها على مائدة الافطار ومرافقة الاصحاب للمساجد وأحاديث السمر في لياليه العطرة
وفي المقابل كان شعور الفقدان والوحشة يملئ حياة الاهل وينغص عليهم فرحتهم بالشهر الكريم
كانت أمي مثلا ترتدي السواد في رمضان وتضع مائدة الافطار ثم تجلس باكية عليها حتى تقوم بلا طعام ويخبرني أبي أنها لم تصنع لهم أي صنف من الاطعمة التي أحبها طول فترة اعتقالي التي دامت لست سنوات . وكان هذا حال الالاف من الاسر المنكوبة
التكيف مع فقد المصاحف
لكن أصعب ما في رمضان علينا هو ذلك المصحف المحرمون منه ..ففي شهر القران كنا نتذكر القرأن عن طريق الحفظ فحسب حيث يجلس كل من يحفظ شيئا إلى اخ له لا يحفظه ليقوم بتلقينه وتحفيظه
وكانت معاناتنا مع الشهر الكريم تبدء من قبل قدومه بساعات حين نظل في معاناة لنعرف متى نبدء الصوم فقد كان ممنوعاً على الحراس أن يخبرونا بأي تاريخ أو حدث
كنا نتحايل على الحراس لنعرف متى يبدء الشهر خاصة في المعتقلات المتطرفة مثل معتقل الوادي الجديد ولازلت أذكر حين أخذتني الشجاعة فقلت لأحد الحراس حين وجدته يقف وحيداً أمام الزنزانة : يا شاويش شكلك منور من الصيام وصلاة التراويح !!
فهز رأسه قائلا بخبث وهو يدرك قصدي : هو أنا لحقت ده هما يومين بس الي صمناهم !! ..وكانت هذه اشارة ان حساباتنا خاطئة وان رمضان قد بدء منذ يومين

وأما في المعتقلات القريبة من العمران كنا نحدد الشهر الكريم من خلال قرأن المغرب الذي تذيعه بعض المساجد القريبة نسبيا من المعتقل
التعذيب فى شهر رمضان .

ومازالت أذكر أحد المجرمين واسمه "أحمد مصطفي حجاب" وهو ضابط بمعتقل دمنهور كان لا يحلو له تجريد المعتلقين من ثيابهم وصعقهم بالكهرباء في الاماكن الحساسة وتمزيق أجسادهم بالكرباج الا في شهر رمضان حتى إننا كان نتهكم فنقول لو أحمد حجاب ضربنا بكرة الصبح يبقه احنا في رمضان وعليكم بخير يا جماعة !!
ولم يكن العذاب ليقف عند هذا فكان الحراس يستغلون خمول الضباط في مكاتبهم المكيفة ليبدء فصل جديد من الاجرام
فى أحد الايام أقترب من باب الزنزانة أحد المخبرين وقال فين الشيخ ابوعمر - يقصدنى – فقمت الى نافذة الباب لاحدثه فقال لى  
:رمضان كريم يا شيخ .. أنا عارف والله انكم محتاجين مصحف واحنا في شهر كريم ..انا جبتلكم مصحف عشان تقروا قران بس بالله عليكم تدعولي وتدعوا لولادي
كنت اعرف هذا الصنف من البشر فالمخبرين دائما شر الخلق واشد فحشا وبطشا وكنت أدرك انه أتي ليبيع لنا نسخة من المصحف لحاجته للمال وليس رحمة بنا

تفاوضنا على السعر الذي استقر عند خمسون جنيها بينما تباع مثل هذه النسخة بحوالي ثلاث جنيهات فقط أعطيته النقود واعطاني المصحف ..ثم شعرت بريبة في قلبي من الامر فطلبت من باقي المعتقلين تفكيك ملازم المصحف وربطها جميعا بخيط ثم إخراجها من النافذه خارج الزنزانة وربط طرف الخيط باحد القضبان حتى يمكننا سحب المصحف مرة اخرى إلى داخل الزنزانة ..انقسم اللاخوة في الزنزانة إلى مؤيد ومعارض لكن في النهاية كان الحصول على نسخة من المصحف أمر لا يمكن المغامرة بفقده
ولم تمضي سوى نصف ساعة حتى حدث ما توقعته
ضابط أمن الدولة وضابط مباحث السجن مع قوة الاقتحام وعدد كبير من المخبرين والحراس يقتحمون الزنزانة للبحث عن المصحف !!
جردونا من ثيابنا وأبرحونا ضربا وصعقا بالكهرباء وقاموا بتفيش الزنزانة فلم يعثروا على المصحف ..تقدم الرائد محمد شعبان رئيس مباحث معتقل الفيوم وقتها وسأل أحد المخبرين أنت شفت المصحف مع مين ؟
تقدم المخبر وكما توقعت كان هو نفسه الذي باع لنا المصحف قبل ربع ساعة ..وبالطبع أشار إلىّ فكذبته ونفيت تماما هذه "التهمة "
أمر الضابط بوضعي في التأديب لمدة اسبوع
والتأديب عنبر مخصص لمعاقبة المساجين حيث يوضع المعتقل في زنزانة صغيرة جدا لا تتجاوز المتر ويمنع من دخول دورة المياة الا مرتين يوميا فقط ويعامل بقسوة طول فترة بقاءه
وفي اليوم التالي حضر المخبر الذي باع لنا المصحف إلى التأديب وسألني بكل صفاقة : فين المصحف ؟ هات المصحف وانا اخلي الباشا يخرجك دلوقتي !!
قلت له : انت غلطان احنا معندناش مصاحف في الزنزانة
فقال :طيب قولي أنت خبيته فين وأنا والله ما هاخده منكم
فاعدت عليه نفس الاجابة : صدقني احنا معندناش مصحف اصلا عشان نخبيه

خرج المخبر وظللت بعدها ستة أيام في التأديب ثم عدت لزنزانتي القديمة وهناك أخبرني اخواني أن مباحث السجن قامت بتفتيش الزنزانة ثلاث مرات لاحقا بحثا عن "المصحف " الذي كنا نخبئه طيلة النهار ونخرجه قبل غروب الشمس بعد اغلاق السجن تماما وذهاب الضباط والمخبرين لبيوتهم
لم أستطع ان أشي بالمخبر لان هذا يعني اعترفا ضمنيا بامتلاكنا نسخة من المصحف الكريم ومصادرتها ولهذا كان علينا ان نحتمل العذاب والبلاء ونحن صامتون
في رمضان أيضا كان الطغاة يتفنون في تنغيص حياتنا وكان الطعام وسيلتهم المفضلة في هذا فكنا لا ناكل سوى الفول والعدس وكان الطعام يأتي على وجبتين
الاولى وجبة الافطار في الثامنة صباحا والثانية وجبة الغداء في الثانية ظهرا
وفي رمضان كانت نفس الوجبات تاتي ودفعة واحدة في العاشرة صباحا بسبب كسل العمل والحراس
كان الطعام كثيرا ما يفسد بسبب تركه أمام الزنازين لساعات طويلة ونكتفي بأكل الخبز وحده على الافطار والسحور
في أحد الليالي من شهر مضان سنة 97 – وفي زنزانة رقم 13 بعنبر 9 بمعتقل الفيوم تناولنا العدس على الافطار وصلينا التراويح ونمت بعدها مباشرة لاستيقظ على
صراخ باقي المعتقلين بسبب الاسهال والالم الحاد الناتج عن تسمم العدس الذي تناولناه على الافطار
كان المشهد يذكرني بانتشار الكوليرا في العصور الوسطي ..الجميع يشكوا من حالة اسهال مزمن ..والمكان يضج بصرخات الالم ..دورة المياة الوحيدة لم تسعفنا فقمنا بعمل اربع دورات اخرى في اركان الزنزانة وسترناها بالبطاطين فجاة شعرت بسكين تمزق احشائي ..أدركت اننا جميعا أصبنا بحالة من التسمم
....أجبرني الالم أن اختف وراء أحد هذه البطاطين ..بعد أقل من ساعة بدت أصوات المعتقلين تعلو من زنازين أخرى وبات مؤكداً أنها حالة تسمم جماعي
ظللنا نصرخ على الحراس من منتصف الليل حتى الصباح ولا مجيب كانت الزنازين تموج بالغائط بينما استلقي المعتقلون في أحد الجنبات لا يقوى أحدهم على الحراك ليغسل الزنزانة وقد اختنقنا من العرق والرائحة الكريهة فيها
تحامل بعضنا على نفسه وحاول تنظيف الزنزانة لكنها عادت كما كانت خلال دقائق بسبب الاسهال المستمر لاكثر من عشرين معتقل داخلها .
اوشك الفجر على الاذان شعرنا وقتها بالموت المحتم فشربنا الماء ونوينا الصيام عسى أن نموت ونحن صائمون في الساعة التاسعة صباحا فوجئنا بالرائد محمد شعبان رئيس مباحث السجن ومعه القوة الضاربة – وهي مجموعة من العساكر المسلحين بالعصي والدروع والصواعق الكهربائية- يقتحم الزنزانة ويقوم بسحب المعتقلين الذين لم يستطيعوا القيام من المرض ثم ينهال علينا ضربا وجلدا وصعقا هو يتسأل بغلظة
: في حد عنده تسمم ؟
كنا نعلم جميعا أنه يسأل على سبيل التحدي وأن من يجيب سينال قسطاً خاصة ومميزاً من التعذيب لكن خطورة الموقف دفعت أحد المعتلقين للصراخ في وجهه
:ياباشا احنا بنموت من امبارح وبص حضرتك على الزنزانة
وكما توقعنا نال هذا المعتقل نصيبا قاسيا من التعذيب وامره الضابط ان يقوم بغسل الزنزانة كلها بالماء قبل اعادتنا إليها
وبعد نصف ساعة من الصعق والجلد للمرضى الصائمين اعادونا للزنزانة
ومعنا أربع اقراص "فلاجيل" مطهر معوي
احترنا في هذه الاقراص الاربع كيف نعطيها لاكثر من عشرين معتقل كلهم مريض ؟
في النهاية قررنا اذابة هذه الاقراص الاربع في زجاجة مياة ويشرب كل معتقل منها رشفة على الافطار .. وقد كان
وظللنا بعدها وحتى نهاية رمضان لا نتناول سوى الخبز وحده على الافطار والسحور خوفا من التسمم وكنا نحلى خبزنا بالنكات والطرائف حول جدوى الصعق في الكهرباء في علاج التسميم من الناحية الطيبة ومدي امكانية توفير صواعق كهربائية في الصيدليات بدلا من
الحقن والادوية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق