منبر الزنزانة (5)



هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله، وموقف الداعية أمام كل احتمال.
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات...
شهد مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب، وقوم لوط، ونجاة الفئة المؤمنة القليلة العدد، مجرد النجاة، ولم يذكر القرآن للناجين دورا بعد ذلك في الأرض والحياة، وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحيانا أن يعجل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك.
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده، ونجاة موسى وقومه، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم، وإن لم يرتقوا قط إلى الاستقامة الكاملة، وإلى إقامة دين الله في الأرض منهجا للحياة شاملا... وهذا نموذج غير النماذج الأولى.
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وانتصار المؤمنين انتصارا كاملا، مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصارا عجيبا، وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمنا على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط، من قبل ولا من بعد.
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود...
وشهد نماذج أخرى أقل ظهورا في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث، وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون.
ولم يكن بد من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود، إلى جانب النماذج الأخرى، ألقريب منها والبعيد...
لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون، ولا يؤخذ فيه الكافرون! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله، وأن ليس لهم من الأمر شيء، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله!
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء، وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه.
إنهم أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير!
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب، ورفعة في الشعور، وجمالا في التصور، وانطلاقا من الأوهاق والجواذب، وتحررا من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال.
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكرا وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة.
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حسابا يسيرا ونعيما كبيرا.
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعا، رضوان الله، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستارا لقدرته، يفعل بهم في الأرض ما يشاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق