منبر الزنزانة (9)



والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لايعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله.
والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها.
وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة. فهي أيضاً الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجبن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلاضرورة أومنفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا لم يكن طلب الغلام للنجاة جبناً ولم تكن عودته إلى الملك تهوراً بل كان في كلا الموقفين شجاعاً حكيما)ً.
(جاء يمشي إلى الملك).
لم تؤثر محنته على منهجه..
لم يحدث التصرف الذي غالباً مايتصرفه بعض الدعاة بعد أن يعيشوا مرحلة من مراحل الخطر.. يخرجون من هذا الخطر وقد قرروا تفاديه في كل مواقفهم.. ويصبح هذا القرار أساساً في تحديد تصور جديد ومنهج جديد.
لم يفعل الغلام ذلك بل عاد متمسكاً بمنهجه بصورة كاملة ودقيقة.. عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها.. نفس الموقف الذي كان فيه.. موقف المواجهة مع الملك.. فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل.
-- .. ويحاول الملك قتله مرة ثانية..
(فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك. فقال لـه الملك: ماذا فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله)..
إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجاً لطبيعة تطور المواجهة الجاهلية المادية البحتة في مواجهة دعوة قائمة بقدر الله وحده.
تلك المادية البحتة التى أعمت أصحابها عن قدر الله السافر فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالماً.
والتي أودت بأصحابها إلى اتباع الأساليب التافهة الناتجة عن النظر القاصر في المسافة اليابسة بين الجبل والقصر.
كيف لو كانت بحراً.
وكما اهتز الجبل فسقطوا .
انكفأت السفينة فغرقوا.
وعاد هو سالماً..
أحداث ناشئة بطبيعة واحدة، ناشئة عن إرادة إلهية غالبة بتمام الدعوة.
أدرك الغلام هذه الحقيقة.. فجاء يمشي إلى الملك.
ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله وإن كان موقفاً خاصاً إلا أنه تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس في حديثه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) .
ولن تكون الحركة صحيحة إلا إذا تحقق في ضمير كل داعية هذا الاطمئنان الذي كان عند الغلام.
-- وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق.
ففي القصة النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب ويجلس إليه ويسمع منه ويعجبه كلامه.
وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط.. مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير.
وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير.
وفي القصة المختلفة بالسبب الواحد وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل فرجف بهم الجبل وجاء إلى الملك وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك.
ومن مجموع هذه الحقائق نفهم من سورة البروج قول الله سبحانه : {فعال لما يريد} [البروج: 16].
لأن هذه الآية هي حقيقة كل الحقائق.
ولقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: (بسم الله رب الغلام) وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان. فقد كانوا يعرفونه محباً لهم وساعياً لمنفعتهم ومداوياً لأدوائهم وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام رباً هداه إلى محبتهم وأذن لـه بشفائهم.
باسمه تحقق عجز الملك وباسمه سيموت الغلام راغباً من أجل إيمانهم وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك. فبعد أن كان يدعي الربوبية ويعذب ويقتل من لا يدَّعيها لـه، يقول في النهاية بنفسه.. (باسم الله رب الغلام).
ولذلك لم يكن الغلام خائفاً من أن تنعكس رؤية الناس لـه وهو يموت خوفاً من الملك بعد قهره بهذا الموقف.
كما أن الغلام لم يكن خائفاً لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفاًكاملاً لـه في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة وبين الملك الظالم.
وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف.
غلام صغير يحب الناس ويقدم بهم المنافع والخير.. يموت برغبته من أجلهم.. بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام.
واستجاب الناس.. فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان (آمنا برب الغلام).. (آمنا برب الغلام).
ففي لحظة الانطلاق من قيود الوهم والجهل..
وفي لحظة العزة بعد القهر والذل..
وفي لحظة القوة بعد الوهن والضعف.. يؤمن الناس.
(فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله وقع بك حذرك).
وتغيرت ملامح المجتمع وأنهت الجماهير ادعاء الحاكم الكاذب فجاء إلى الملك من يقسم لـه بالله على هزيمته وعجزه ويقول له: (قد والله وقع بك حذرك).
(فأمر بالأخاديد في أفوه السكك فخدت وأضرم فيها النيران).
ورغم هذا لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق وفي كل السكك وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران.
وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: (من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أوقيل لـه اقتحم) ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه فيكون أقل مقدار للضعف كافياً وسبباً للارتداد وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامناً في النفوس.
ويلتقط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه (جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: ياأمه، اصبري إنك على الحق).
جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تفصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود واشتعلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها فترددت أن تقع بابنها ولكن الطفل يطفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتلقي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود. قصة الانتصار للحق.
وتبقى مشاهد العذاب وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن استضعافاً في الأرض وجاهلية في الحياة ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة.

وفي ذلك جاء قول الله تعالى: {والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} [ البروج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق