الشهيد كمال السنانيرى
حياته في السجن
وفي أثناء محاكمته تعرض إلى تعذيب وحشيٍّ فاق كل خيال، حتى إن والدته لم تتعرف عليه في أثناء حضورها الجلسة الأولى للمحاكمة؛ لشدة ما وقع عليه من عذاب، فقد نحل جسمه، وكسر فكه؛ حتى تغيرت طريقة كلامه، وبلغ من شدة تعذيبه أن شقيق زوجته الأولى - وكان معتقلاً معه - أصيب بالذهول من هول المآسي التي نزلت على السنانيري، ولم تتحمل أعصابه المرهفة آثارالعذاب الوحشية البادية على الجسد الواهن، ففقد عقله، ونقل إلى مستشفى الأمرض العصبيَّة. وظل في السجن لا يلبس إلا الثياب الخشنه، ورفض ارتداء الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن، وعاش سجنه متجردًا من كل ما يعتبره ضابط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا، آثر أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه؛ ليملك من نفسه ما يعجز الآخر أن يملكه منه. وهذا السلوك يجلي نفس "السنانيري" التي ملكها، وجعلها طوع بنانه، وأخلى قلبه من التطلع إلى الدنيا بعد أن ملأه زهدًا وصلاحًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأخذ نفسه بالشدة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يرفض ما يطلبه منه ضباط السجن من تأييد نظام عبد الناصر طلبًا للسلامة، وطريقًا للخروج من جحيم السجن. وفي فترة سجنه طلق زوجته الأولى بعد أن ضغط رجال المباحث على أهلها لتطلب الطلاق، وكان قد خيَّرها من قبل بين البقاء زوجة له أو الطلاق، ولكنها آثرت أن تظل زوجة له، لكن أهلها أجبَروها على الطلاق منه, ثم مُنَّ عليه وهو في السجن بأن عقد قرانه على "أمينة قطب" أخت الشهيد "سيد قطب"، وبنى بها بعد خروجه من السجن، ولم يرزق منها بأطفال.
نشاطه بعد الإفراج عنه
وبعد خروجه من السجن عاود نشاطه الدعوي، ولم يركن إلى الدعة والراحه بعد المعاناة الطويله التي تحملها في صبر وثبات، فالدعاة والمصلحون لا يتخلون عن رسالتهم مهما عانوا من تبعاتها. وكان من أبرز نشاطاته دوره في ميدان الجهاد في أفغانستان، التي تعرضت للغزو الروسي، ووقعت في قبضته، وقد بذل السنانيري وقته وجهده في دعم المجاهدين الأفغان، ورأب الصدع بينهم، وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعًا، وعرفوا قدر إخلاصه وحرصه على وحدتهم، ودانوا له بالطاعة والاحترام، فلا يكادون يخالفون له أمرًا في أثناء وجوده معهم.
اعتقاله واغتياله في المعتقل
وبعد عودته من أفغانستان تعرض للاعتقال مع غيره من أبناء الحركة الإسلامية وقادة العمل الوطني في مصر، وكان الرئيس السادات قد أصدر- في [ذي القعدة 1401 هـ الموافق سبتمبر 1981 م] - قرارات التحفظ الشهيرة على معارضي سياسته، وألقى بهم في المعتقلات بعد أن اشتدت المعارضة لاتفاقيات الصلح مع العدو الإسرائيلي، وتعرّض السنانيري في أثناء اعتقاله لتعذيب رهيب؛ أملاً في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ووقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده هذه الأهوال التي تفنن زبانية التعذيب في إلحاقها به, ولم يكن لمن في سنه أن يتحمل هذه الأهوال ففاضت روحه الطاهرة في [10 من المحرم 1402 هـ الموافق 8 من نوفمبر 1981م]. ولم يكتف هؤلاء الجلادون بقتله، بل حاولوا اغتياله معنويًا، فأشاعوا أنه قد انتحر بأن ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة، وصار يجذب نفسه حتى مات، وفى الصباح اكتشف السجَّان الجثة، وجاء الطبيب الشرعي، وعاينها وأثبت سبب الوفاة. ولم يصدق أحد هذه القصة الملفقة، التي لايمكن أن يقبلها عقل طفل صغير, فتاريخ السجون المصرية في عهد الثورة مليء بمثل هذه المآسي، وخبرة رجالها في اغتيال المعتقلين العزَّل أمر يعرفه الناس جميعًا، وتلفيق التهم الكاذبة عن ادعاء هروبهم بعد القيام بقتلهم معروف بين الكافة, ولا يمكن لمن صمد عشرين عامًا ثابت النفس، راسخ الإيمان أن يجزع لاعتقاله فترة قليلة من الزمن، فيقدم على مثل هذا العمل.
مراثي زوجته
عرف الأدب العربي مراثي الأزواج لزوجاتهم، وهي تفيض ألمًا وحزنًا على فراق أحبتهم، ومن الشعراء من خصص ديوانًا كاملاً لرثاء زوجاتهم، مثل "عزيز أباظه" و"عبد الرحمن صدقي" و"محمد رجب البيومي", غير أن رثاء الزوجات لأزواجهن نادر في الشعر العربي، وقد رثت السنانيري زوجته "أمينة قطب" في أكثر من قصيدة، وكان لها في ذكرى استشهاده من كل عام قصيدة حزينة مؤثرة، ولو جمعت هذه القصائد في ديوان لكان حدثًا كبيرًا في دنيا الشعر العربي المعاصر.
إنَّ قصة زواج "أمينة" من الشهيد "السنانيري" لتبعث على الإجلال والعجب معاً، فقد تمَّ الرباط بينهما حين كان الشهيد كمال السنانيري داخل السجن.
تقول السيدة أمينة: كان هذا الرباط ...قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون.. لقد سجن الداعية الشهيد كمال السنانيري في عام 1954م، وقُدِّم إلى محاكمة صورية مع إخوانه لأنهم يقولون ربنا الله.. وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً) ثم يعاد بعدها إلى المعتقل.
...
وبعد مرور خمس سنوات خرج ليدخل مستشفى السجن، وفيها قابل الأستاذ "سيد قطب"، الذي كان يعالج في نفس المستشفى، وفي هذا المكان طلب "السنانيري" يد "أمينة" من أخيها "سيد"، وبعد عرض الأمر عليها وافقت على هذه الخطبة التي ربما تمتد فترتها لتستمر عشرين عامًا، هي الفترة الباقية لهذا الخطيب المجاهد حتى يخرج من محبسه الظالم، وتم العقد بعد ذلك، على الرغم من بقاء العريس خلف الأسوار المظلمة، وكأن "أمينة" بذلك تعلمنا معاني كثيرة؛ تعلمنا التضحية الفريدة، فقد كانت شابة ولم يفرض عليها أحد هذا الاختيار، إنها عشرون عامًا، ليست عشرين يومًا أو حتى عشرين شهرًا!! وكأنها كذلك تذكر أولئك المجاهدين المحبوسين عن نور الشمس بالأمل والثقة في وعد الله واختياره،
وكان الزوج العطوف يكره لها غبنًا أو ظلمًا، فارسل لها : "لقد طال الأمد، وأنا
مشفِقٌ عليك من هذا العناء، وقد قلت لكِ في بدء ارتباطنا قد يُفرَج عني غدًا، وقد أمضي العشرين سنة الباقية أو ينقضي الأجل، ولا أرضَى أن أكون عقبةً في طريق سعادتك، ولكِ مطلَق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحًا في أمرِ مستقبلك من الآن، واكتبي لي ما يستقرُّ رأيُك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير".، ووصل رد "أمينة" في رسالة تنبئ عن كريم أصلها، جاء فيها: "لقد اخترت أملاً أرتقبه، طريق الجهاد والجنة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم".
ومرت السنوات الطويلة سبعة عشر عامًا، خرج الزوج بعد أن أفرج عنه عام 1976م، ليواصل مع "أمينة" الأمينة رحلة الوفاء والكفاح، وتمَّ الزواج، وعاشت أمينة معه أحلى سنوات العمر. وفي الرابع من سبتمبر سنة 1981م اختُطف منها مرة أخرى ليودع في السجن، ويبقى فيه إلى أن يلقى الله شهيداً من شدة و هول ما لاقاه من تعذيب في السادس من نوفمبر من العام نفسه، وسُلِّمت جثته إلى ذويه شريطة أن يوارى التراب دون إقامة عزاء..
وظلت "أمينة" تعيش على تلك الذكريات الجميلة، ذكريات الحب والوفاء والجهاد والإخلاص.
وكتبت في شعرها: متساءلة بلوعة بعد فراقه:
هل ترانا نلتقـي أم أنهـا *** كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم ولَّت وتلاشـى ظلُّهـا *** واستحالت ذكـرياتٍ للعذاب
هكذا يسـأل قلبي كلمــا *** طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا طيفك يرنـو باــمًا *** وكأني في استماع للجـواب
أولم نمضِ على الدرب معًا *** كي يعود الخـير للأرض اليباب
فمضينا في طريق شائـك *** نتخلى فيه عن كل الرغـاب
ودفنَّا الشوق في أعماقنا *** ومضينا في رضــاء واحتساب
قد تعاهدنا على السير معـًا *** ثم عاجلت مُجيبًا للذهـاب
حيـن ناداك ربٌّ منع،مٌ *** لحيـاة في جنـان ورحـاب
ولقاء في نعيم دائم *** بجنود الله مرحى بالصحـــاب
قدَّموا الأرواح والعمر فدا *** مستجيبين على غـير ارتياب
فليعُد قلبك من غفلاته *** فلقاء الخلد في تلك الرحــاب
أيها الراحل عذرًا في شكاتي *** فإلى طيفك أنَّات عتـاب
قد تركت القلب يدمي مثقلاً *** تائهًا في الليل في عمق الضباب
وإذ أطوي وحيدًا حائرًا *** أقطع الدرب طويلاً في اكتئـاب
فإذ الليل خضـمٌّ موحِشٌ *** تتلاقى فيه أمواج العـذاب
لم يعُد يبــق في ليلي سنًا *** قد توارت كل أنوار الشهاب
غير أني سوف أمضي مثلما *** كنت تلقاني في وجه الصعاب
سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا *** يرتضي ضعفًا بقول أو جواب
سوف تحذوني دماء عابقات *** قد أنارت كل فجٍ للذهـاب
يقول عنه الأخ عبد الله الطنطاوي في جريدة "اللواء" الأردنية: ".. لقد وجد فيه الإمام الشهيد (مُصعبًا) جديدًا يتفانى في خدمة الدعوة وأبنائها، ويسهر على فهمها واستيعاب أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجهادية، فكان مناط الرجاء والقدوة العملية للشباب باستقامته وورعه وزهده وحركته وبذله من ذات نفسه وماله ووقته وجهده، وبتدينه، فقد كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل مصليًا وتاليًا القرآن وذاكرًا ربه بدموع سخيّة، وبتواضعه لإخوانه من أبناء مصر ومن الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية.
لقد تُوفي أبوه وترك له أسرة مؤلفة من ثلاثة أشقاء، وثلاث شقيقات، وأمه، فكان العائل لهم، وكان الأب الشفيق الرحيم، وإن كان بعضهم يكبره في السن، وهكذا أضيف إلى أعباء الدعوة عبء الأسرة، بل أعباؤها، والأخ كمال راضٍ بما قسم الله وقدره له، يسعى على أسرته ويحرث في حقول الدعوة وميادينها ويغرس الفسائل التي ستُؤتي أُكلها في قابل الأيام.
عمل من أجل فلسطين، كما عمل من أجل مصر، وقدم جهده في خدمة القضايا العربية والإسلامية فازدادت مهماته وازداد معها نشاطه وتضحياته حتى أنه لم يفكر في شراء بيت وأثاث، فهو كثير التنقل والأسفار، وإذا أراد أن يأوي إلى فراش سارع إلى بيت أخته الكبرى ليستريح لحظات ويأكل لقيمات، ثم يبادر، ما ترك أمسه ليومه، وما سيفعله في غده.
في 28/2/1954م تحركت جماهير الشعب نحو قصر عابدين تنادي بالحريات التي طغى عليها وبغى ناصر وزبانيته، وكان لشهيدنا السنانيري دورٌ كبيرٌ في تنظيم هذه المظاهرة التي ضمَّت مئات الألوف بقيادة العالم الجليل الشهيد عبد القادر عودة، وانهمر الرصاص الآثم على المتظاهرين، وارتفعت أرواح الشهداء عن يمينه وعن شماله، وكمال السنانيري صامد يقود وينظم ويرفع قمصان الشهداء المضرجة بالدماء، يرفعها ويهتف ليرى الناس ويعلموا أي حكم هذا الذي يحكم مصر، وماذا يريد رجال الثورة بمصر وشعبها.
وكان كلاب النظام يرصدون القادة الفاعلين في قيادة تلك المظاهرات وكان فيهم ومنهم كمال السنانيري الذي قضت محكمة الشعب (مهزلة المحاكم التاريخية) قضت عليه بالحكم بالأشغال الشاقة مدة عشرين عامًا.
اعتقل كمال السنانيري في أكتوبر عام 1954م وأفرجوا عنه في يناير 1973م بالتمام والكمال، ولم يكن للسادات فضل في الإفراج عنه فقد أمضى المدة التي حكم عليه بها في سجون الواحات في وهج شمسها المحرقة، ولهيب هواء الصحراء، واشتعال الرمال بالأقدام الحافية.
بعد الحكم عليه ضغطوا على زوجته وأمه لعلهما تثنيانه عن عناده، ويكتب سطرين في تأييد عبد الناصر فأبى بشدة، وقال لأمه التي طلبت منه أن يكتب رسالة استعطاف وشفعت كلامها بدموع سبعينية، فاعتذر لها وقال بشموخ الداعية: "كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أَرْسلت هذه الرسالة ثم مت، هل ترضين يا أمي أن أموت على الشرك؟".
وخيّر زوجته بين البقاء زوجة له أو الطلاق، فالتقطت دمعاتها وقالت: "أبقى زوجة لك أيها الحبيب"، ولكن رجال المباحث الناصرية ضغطوا على أهلها فأجبروها على الطلاق منه.
اعتقاله وسجنه
اعتقل في أكتوبر سنة 1954م وحكمت عليه المحكمة التي أنشأها الطاغية عبد الناصر بالسجن الذي أمضى فيه كامل الحكم حتى أفرج عنه في يناير سنة 1973م، أصيبت أذنه بأذى شديد من التعذيب، فنقل إلى مستشفى القصر العيني، وكان يحمد الله بعد خروجه من السجن لأنه صار يسمع بأذنه المصابة أفضل مما يسمع بأذنه السليمة..
وكانت والدة السنانيري وشقيقته الكبرى تواظبان على حضور جلسات المحاكمة الهزلية سنة 1954م، وفي الجلسة الأولى لم تتعرف الوالدة على ابنها كمال لما أصابه من التشويه نتيجة التعذيب، فسألت ابنتها: أين أخوك كمال؟ فقالت لها: إنه الذي في القفص، فردت عليها الأم: لا يا بنتي هو أنا (عبيطة) حتى لا أعرفه؟!
وكان السنانيري قد نحف جسمه حتى باتت ثيابه فضفاضة عليه وحلقوا شعر رأسه ولحيته وكسروا فكه حتى تغير كلامه، كما أن أذنه اليُسرى فقدت سمعها، وبقيت والدته في تلك الجلسة مُصرة على أن هذا ليس ابنها كمال.
زواجه في السجن
وفي فترة سجنه الطويل عقد قرانه على الأخت الفاضلة (أمينة قطب) شقيقة الشهيد سيد قطب وتزوج بها بعد الخروج سنة 1973م ولم يرزق منها بأولاد، لأنها قد تجاوزت الخمسين من العمر.
زهده وورعه
كان بطبعه لا يحب المظاهر ويميل إلى البساطة، ويحب البسطاء من الناس ويهتم بوعظهم وتوجيههم وجمعهم على العقيدة الصحيحة النقية الصافية من البدع والخرافات، وكان زاهدًا في الحياة، يقوم الليل ويصوم الأيام الطويلة... وعاش في السجون لا يلبس إلا الثياب الخشنة.
ورجلٌ هذه حياته وهذا زهده لم يكن غريبًا أن يأبى ما يطلبه منه ضباط السجن وضباط المباحث، طوال مدة سجنه عشرين عامًا، من تأييد لنظام عبد الناصر، آخذًا بالعزائم معرضًا عن الرخص.
خروجه من السجن وجهاده
وبعد خروجه، كان وكأن السجن الذي جاوز العشرين عامًا قد زاده نقاء إلى نقائه وصفاء إلى صفائه وصلابة إلا صلابته، وكان حريصًا على جمع صفوف الإخوان في العالم كله.
وذهب كمال السنانيري لميدان الجهاد في أفغانستان حيث أعطاه جهده وطاقته، وبذل أقصى ما يستطيع لدعمه ورفده وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعًا ودانوا له بالأستاذية فلا يكادون يخالفون له أمرًا في وجوده بينهم.
وحين اعتُقل بعد عودته من أفغانستان، ظل العذاب يُصب عليه من زبانية السلطة؛ ليعرفوا دوره في الجهاد الأفغاني، ودور من معه، فاستعصى عليهم، ولم يخرجوا بشيء رغم الأيام والليالي المتوالية التي أمضوها وهم ينهالون عليه تقطيعًا وتمزيقًا، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولقي ربه شهيدًا من شهداء الحق والصدق إن شاء الله يوم 8/11/1981م.
وكان رحمه الله في أيامه رهن التحقيق الذي أشرف عليه الجلاد (حسن أبو باشا) حين ودّع الحياة الدنيا أزهد ما يكون فيها، ليستقبل ريح الجنة أشوق ما يكون إليها.
لقد سقط الشهيد بين جلاَّديه وهم يحاولون انتزاع ما يرضيهم من الطعن في الجماعات الإسلامية، ولكنه استمر يقول: "إن السادات قد فتح قبره بيديه بتوقيعه معاهدة الذل (كامب ديفيد) التي تقضي بتسليم رقاب الشعب المصري المسلم لإسرائيل وأمريكا" (مجلة المجتمع 11/11/1981م).
كتب عنه الأستاذ صلاح شادي: "... عاش كمال السنانيري حياته في سجون عبد الناصر أكثر من تسع عشرة سنة، لا يلبس إلا ثياب السجن الخشنة.. وحتى الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن كان يرفضها لا لقلة من ماله، وإنما كان يأبى إلا أن يعيش متجردًا من كل ما يعتبره ضباط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا.. فآثر رحمه الله أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه؛ ليملك من نفسه ما يعجز الغير أن يملكه منه، كان هذا مفتاح شخصيته الزاهدة المتجردة وكان دأبه على هذا السلوك موضع عجبنا وإعجابنا، فقد كنا نأخذ أنفسنا بالرفق لنستطيع أن نتحمل مشقة الطريق الطويل الذي قدر الله لنا أن نسلكه، أما هو فقد كانت نفسه أطوع لديه من بنانه، فما عاد يحس بمشقة تدعوه إلى الرفق بها" انتهى.
قصيدة زوجته
وقد رثته زوجته أمينة قطب في أكثر من قصيدة، وكانت لها قصيدة حزينة مؤثرة في ذكراه كل سنة بعد استشهاده، وكانت أولى تلك القصائد بعد استشهاده هي قولها:
ما عدت أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عدت أنتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
ما عدت أَرْقُب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء
وأضيء نور السُلَّمِ المشتاق يسعد بارتقاء
ما عدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء
ويضيء بيتي بالتحيات المشعة بالبهاء
وتعيد تعداد الدقائق كيف وافانا المساء؟
وينام جفني مطمئنًا لا يؤرقه بلاء
ما عاد يطرق مسمعي في الصبح صوتك في دعاء
ما عاد يرهف مسمعي صوت المؤذن في الفضاء
وأسائل الدنيا: ألا من سامع مني نداء؟
أتراه ذاك الشوق للجنات أو حب السماء؟
أتراه ذاك الوعد عند الله؟ هل حان الوفاء؟
فمضيت كالمشتاق كالولهان حبًا للنداء؟
وهل التقيت هناك بالأحباب؟ ما لون اللقاء؟
في حضرة الديان في الفردوس في فيض العطاء؟
أبدار حق قد تجمعتم بأمن واحتماء؟
إن كان ذاك فمرحبًا بالموت مرحى بالدماء
ولسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاء
ولسوف ألقاكم أجل. وعد يصدقه الوفاء
ونثاب أيامًا قضيناها دموعًا وابتلاء
وسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقًا أو فناء
رحم الله أستاذنا السنانيري رحمة واسعة، وألحقنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
إقرأ أيضا : الشهيد المفسّر الأديب سيد قطب
إقرأ أيضا : الشهيد المفسّر الأديب سيد قطب