المعتقلين بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف




المعتقلين بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف

في ظل محنة الاعتقال والتعذيب وفي خضم التعرض لشتى ألوان ووسائل التعذيب الجسدي والنفسي والذي سبق ووضحاً معالمه يأتي دور المساومة للتنازل عن الثوابت والانحراف عن العقائد والمبادئ عبر دراسة نفسية متعمقة من قبل الجلادين يتحينون فيها زمان ومكان المساومة ويتدرجون فيها بزحف كزحف الأفاعي ومكراً كمكر الذئاب.
كانت المساومات تاتى بعد سنوات التعذيب والقهر التي لا يحتملها بشر لتكون التوبة او الإرشاد أو المبادرات التي فيها تذبح الثوابت والعقائد والمبادئ على مذبح تخفيف المعاناة أو انتهائها.
فإذا أردت أن تنهي معاناتك فما عليك سوى ان تضغط زر الإنهاء ولكن عليك حينها أن تدفع الثمن من دينك وثوابتك ومبادئك.
لن أقوم بالتكلم في هذا الموضوع بالتفصيل ولن أسقط على واقع التوبة والإرشاد والمبادرات لان ذلك يحتاج الى كتاب منفصل قائم بذاته لعلى اسطره قريبا ان شاء الله ، ولكن سنطرح القضية في إطار عام ومن أفضل من سمعت له فى موضوع مشابه  الدكتور/ إياد قنيبي حين كان يتحدث عن الحركات الإسلامية بين الثبات وسيكولوجيا الانحراف.
فوجدت طرحه أنسب لما يكون من واقع داخل أسوار المعتقل إذ تتشابه المنهجية التي يتعامل بها من يحاربون الإسلام داخل وخارج المعتقل

الالتزام والتوافق"

قصتنا تبدأ مع الأسرى الأمريكيين العائدين من معسكرات الاعتقال في الصين الشيوعية بعد الحرب الكورية التي اشتركت فيها الدولتان في الخمسينات من القرن الماضي، حيث تفاجأت القيادة الحربية الأمريكية بنجاح مقلق للمستجوبين الصينيين في تطويع الجنود الأمريكيين واستخراج المعلومات منهم بدون استخدام الأساليب الوحشية و التعذيب! فقد كان الأسرى متعاونين إلى أقصى الحدود في الإبلاغ عن محاولات الهروب لزملائهم، وكانوا يقدمون هذه المعلومات دون إكراه وبمجرد أن تُعرض عليهم مكافأة لا قيمة لها ككيس من الأرز
على إثر ذلك شكلت القيادة الحربية الأمريكية فريق التقييم النفسي و العصبي بقيادة الدكتور هنري سيغال الذي قام باستجواب أسرى الحرب العائدين بشكل مكثف للوقوف على طرق الصينيين في استمالتهم للتعاون معهم وتغيير قناعاتهم. فتبين أن الصينيين يعتمدون طريقةَ "انتزع تنازلا صغيرا ثم ابنِ عليه"، بحيث ينتزعون من الأسير الأمريكي أي تنازل يسير، ثم يوثقون هذا التنازل، ثم يستدرجون الأسير إلى الاعتراف بتبعات ولوازم هذا التنازل، فيلتزم الأسير هذه التبعات ويقرُّ بها، إلى أن يجد نفسه يغير نفسيته ليصبح منسجما مع موقفه الجديد، ومن ثم تتفاقم تنازلاته إلى أن يصبح في النهاية عميلا من حيث لا يشعر. هذه هي خلاصة أسلوب الالتزام والتوافق
(Commitment and Consistency).

بداية كان الصينييون يطلبون من الأسرى الأمريكيين أن يعطوا تصريحات تبدو في غاية البساطة وبدون أية تبعات تذكر، مثل: "الولايات المتحدة الأمريكية ليست كاملة" أو: "لا توجد مشكلة البطالة في الدولة الشيوعية".ولكن ما أن تتم تلبية هذه الطلبات "البسيطة" حتى يطالب الأسرى باتخاذ موقف آخر يبدو نتيجة تلقائية للتصريح الأول، لكنه يمثل تنازلا أكبر وتلبية أقرب لمطالب العدو.

فمثلا الأسير الذي يوافق مع المستجوب الصيني على أن الولايات المتحدة ليست كاملة يطلب منه كتابة قائمة بالمشاكل في أمريكا التي تجعلها غير كاملة، ثم يوقع باسمه على القائمة. ثم بعد فترة يُطلب منه قراءة هذه القائمة في مجموعة نقاش مع الأسرى الآخرين. وقد يطلب منه بعدها أن يكتب مقالا يتوسع فيه بشرح تفصيلي للنقاط التي كتبها في قائمته و جوانب تلك المشاكل. ويقال له في ذلك كله: (أليس هذا ما تعتقده أنت بنفسك دون إجبار أحد؟ لا نطالبك بأكثر من أن تصرح بمعتقدك. إن كنت واثقا من معتقدك فأنت على استعداد أن تلتزم به. أليس كذلك؟)
وهذا ما نقصده بالالتزام (Commitment): صَرَّح الأسير تصريحا بسيطا لكنه التزم بتبعاته.

وكان الصينيون يُجرون مسابقات بين الأسرى الأمريكيين لأحسن مقال عن مقارنة نظام أمريكا بالشيوعية، وأحيانا يفوز مقال يمدح في عمومه الولايات المتحدة لكن يلين لوجهة النظر الصينية الشيوعية في موضع أو موضعين. المهم انتزاع أي تنازل بسيط
ثم إذا بالصينيين يبثون مقال الأسير الأمريكي مع اسمه على الراديو الموجه للقوات الأمريكية المقاتلة وكذلك في كل معسكرات الاعتقال، بحيث يسمعه الأسير نفسه. وفجأة يجد الأسير الأمريكي نفسه قد قام بتصرفات تخدم العدو، أي أنه أصبح بطريقة أو بأخرى "متعاونا مع العدو".
والمهم جدا في الأمر أن الأسير يدرك في نفسه أنه قد كتب مقاله واتخذ مواقفه طواعية بدون تهديدات شديدة أو إكراه. فلو تم الأمر بالإكراه لوجد الأسير لنفسه عذرا لمواقفه هذه وكذلك الناس حوله، بل سيؤدي الإكراه إلى نفوره من المواقف التي اتخذها ورفضها وتبرؤه الداخلي منها. لكنه، في الواقع، فعل ما فعل دون إكراه.

فينتهي الأمر بالأسير إلى تغيير نظرته إلى نفسه حتى يصبح متوافقا و منسجما (consistent) مع الفعل الذي قام به ومع التعريف الجديد لنفسه كــ (متعاون مع العدو). بدأ الأمر بتصريحات تبدو تافهة و عديمة القيمة، لكن الأسير التزم بهذه التصريحات ثم استُدرج لخطوات أخرى غيرت من نفسيته، وهذا التغيير بدوره سمح له بتقديم تنازلات أكبر، وهكذا دواليك على مبدأ الحلقة الخبيثة (vicious cycle) إلى أن يكتب مقالا موسعا ينتقد فيه نظام الدولة التي كان يحارب من أجلها بل ويتعاون مع عدوها.
هذه خلاصة أسلوب الالتزام والتوافق
ضرورة أن يوثق الأسير الأمريكي موقفه أو تصريحه، حيث أن هذا التوثيق أقوى في تغيير انطباعه عن نفسه وانطباع زملائه عنه.
فالشخص يستحضر لاشعوريا مواقفه السابقة، وخاصة الموثقة منها، وكأنها المصدر الرئيسي لمعلوماته عن نفسه و تحديد شخصيته. وعليه فقد كان الصينيون حريصين على انتزاع موقف موثق منسجم مع رغباتهم، إلى درجة أن الأسير إذا رفض أن يكتب العبارات المذكورة أعلاه مثل"أمريكا ليست كاملة" أو "لا بطالة في الشيوعية" فإنه كان يُطلب منه نسخ سؤال وجواب مكتوبين له مسبقا فيهما هذه المعاني. فهذه الكتابة بخطه –كدليل ملموس- تستدرج الأسير إلى التغيير النفسي ولو بدأ قليلا، كما أن الصينيين كانوا يطلعون الأسرى الآخرين عليها لتتغير نظرتهم إلى زميلهم. والغريب في الأمر أن الآخرين، حتى وإن علموا بأن الكاتب لم يختر كتابة تلك السطور بدافعية ذاتية، إلا أنهم سيشعرون بأن تلك الكتابات تمثل حقيقة اعتقاد الأسير وإحساسه طالما أن صياغتها لا تُشعر بأنه كتبها مكرها. وهذه خلاصة دراسة لعالمي النفس إدوارد جونز وجيمس هاريس

الالتزام العلني:

فالذي يتخذ موقفا معلنا يكون أكثر التزاما به ودفاعا عنه ممن لا يعلن موقفه على الملأ.
لذا فقد كان الصينيون في المسابقات المذكورة يأتون بالمقال الذي يلين ولو قليلا للشيوعية وسط مديح كثير لنظام أمريكا، فيعلقونه في معسكر الاعتقال ويبثونه بالراديو، ليجد صاحب المقال نفسه مدفوعا إلى المحافظة على الموقف الذي اتخذه، مبررا للتصريح الذي صرح به، ليبدو كإنسان لديه مبدأ ثابت، كإنسان منسجم مع ذاته ومتوافق مع أفعاله. وهنا حبكة الموضوع
فالشخص الذي يتصرف بأشكال متناقضة يبدو في عيون الناس متقلبا غير واثق، مشتت الفكر, غير جدير بالثقة. و هذه الخصائص كلها مكروهة من المجتمع و من الشخص نفسه. بينما يبدو الشخص المتوافق الثابت في تصرفاته بأنه واثق سديد الرأي. ولذلك فإنك تجد الناس يسعون دائما لأن يكونوا متوافقين في تصرفاتهم و يتجنبوا كل ما يمكن اعتباره تضاربا في مواقفهم

3) الجهد الإضافي المبذول: فهو يؤدي إلى التزام أعلى.

في عام 1959 قام الباحثان إليوت أرونسون و جدسون ميلز بدراسة بينت أن الشخص الذي يخوض ألماً و عناءا شديدين في سبيل الحصول على شيء ما فإنه يعطي هذا الشيء أهمية أكبر بكثير ممن حصل على الشيء نفسه بجهد قليل. وفي حالة الأسرى الأمريكيين فإن كتابة مقال موسع سعيا للفوز في المسابقة لم تكن أمرا سهلا

العامل الرابع لنجاح استدراج الأسير بأسلوب التوافق والالتزام هو:

الاختيار الذاتي:
و هو العامل الأكثر أهمية!
ففي تجربة الأسرى الأمريكيين فإنه يتبادر إلى الذهن أنه حتى يتم تحفيز الأسير للفوز في مسابقة بكتابة مقال يلين للشيوعية فإن الجوائز مقابل ذلك يجب أن تكون ذات قيمة عالية. ولكننا نجد أن الجوائز كانت ذات قيمة قليلة، فمن بعض السجائر إلى القليل من الفواكه الطازجة، وليس جائزة كبيرة مثل ملابس دافئة في البرد القارص أو تسهيل الاتصال بالعالم الخارجي.
كان هدف حجب الجوائز الكبيرة هو أن يحس الأسير بأن كتاباته هي ملكه ونابعة من ذاته، بدون أن ينظر لنفسه على أنه كتب ما كتب من أجل جائزة كبيرة. والهدف من ذلك كله هو أن يتحمل الأسير أمام نفسه مسؤوليةً عما كتب.

فالهدف من هذه المحفزات هو تحفيز الأسرى للمشاركة في المسابقة، والحدُّ من قيمتها هو لئلا يشعروا بأنهم غيروا مبادئهم من أجلها. إذ أن المطلوب هو أن يقبل الأسرى المسؤولية الذاتية الداخلية عن عملهم وكتاباتهم ويشعروا بأنهم ملزمون به ومضطرون للدفاع عنه.

كانت هذه خلاصة تجربة الأسرى الأمريكيين الذين قدموا تنازلات تبدو عديمة التبعات في البداية لكنهم وصلوا في المحصلة إلى تغيير مبادئهم والتعاون مع العدو


اسقاط

فحتى لو قبل الاسرى الإسلاميون هذه الصفقة، فإنهم لن يقبلوا المسؤولية الداخلية عنها، ولن يروا التنازلات التي قدموها جزءا من كيانهم، ولن توافق نفسياتهم لتتناسب مع هذه التنازلات. إذ أنها سترى هذه التنازلات حينئذ شيئا منفصلا عن سلوكها ومنظومتها النفسية قامت به كحالة استثنائية من أجل تحصيل هدف مؤقت، ثم سترفضه وتتبرأ منه بمجرد تحصيل هذا الهدف.
- وليس هذا هو الذي يريد الأعداء تحقيقه. بل هم يريدون لمنتسب الحركات الإسلامية ألا يحس بالاستدراج، بحيث إذا نظر إلى نفسه في المرآة مساءاً لا يحس أنه يرى صورة رجل غير مبادئه. فإذا قالت له نفسه: (أجبتَ أعداءك إلى ما طلبوه منك؟) رد عليها: (بل أنا صاحب القرار وأنا اخترت أن أفعل ما فعلت، بقناعة منبثقة من نفسي و ذاتي). وإن قالت له نفسه: (إنك تتنازل) رد عليها: (أتنازل من أجل ماذا؟ الذي يتنازل يُغرى عادة بشيء يحرص عليه. إنما أنا أتلمس فلتات العدو وسهواته ونقاطَ الضعف في نظامه وقانونه لأحقق منفعة لديني. والتصريح الذي صرحتُه والموقف الذي اتخذتُه لا يشكل خرقا كبيرا لمبادئي وعقيدتي).
-إذن فهو يوهم نفسه بأنه يغافل العدو وينسلُّ من خلال ثغرات نظامه، لا أنه يساوَم على مبادئه.

كان هذا فيما يتعلق بعامل الاختيار الذاتي، وهو –كما في كتاب التأثير وسيكولوجيا الإقناع- أهم عامل لإنجاح أسلوب الالتزام والتوافق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق