القصة الرابعة عشر



محمد الصعيدي

من مذكرات خالد حربى

كان الحارس يمسك بيدي ويدفعني عبر ممرات المعتقل وهو يسأل بلهجة حادة يعني خت إفراج امبارح: ومرجعينك تاني على النهاردة طيب كان لزمته أيه الإفراج من أصوله  لم أكن في حالة مزاجية تسمح لي بالحديث فسكت ..لكنه كان مصرًا على سماع إجابتي 
قلت :يا حضرة الصول ما هو لازم حكم المحكمة ينفذ ولازم كمان قرار أمن الدولة ينفذ يبقه أخد إفراج وأترحل لأمن الدولة فتكتب لي جواب اعتقال جديد ودوخيني يا لمونه 
رد متعجبا "ربنا يتوب عليكم ..قلت له ساخرا : والله إحنا مستنين ربنا يتوب عليكم أنتم ..احنا ربنا تاب علينا من زمان ..رد باقتضاب : ربنا يتوب علينا كلنا .
كنا قد وصلنا لبوابة عنبر 2 بمعتقل دمنهور 
، دخلنا من بوابته الكبيرة ووقفت كالعادة في بهوه حيث شرع حارس العنبر في تدوين بياناتي في الدفاتر فقلت له :ريح نفسك يا شاويش أنا لسه واخد افراج امبارح من هنا يعني هتلاقي بياناتي لسه ملحقتوش تمسحوها !كان الحارس منهمكا في نقل البيانات بينما جلس اثنان من السجناء الجنائيين بملابسهم الزرقاء المهلهلة على الأرض يدخنون السجائر ويستريحون من تنظيف العنبر حين دخل الشاويش "رجب" فزعق به حارس العنبر : يا رجب متجيب حد ينقل الواد الي مرمي من الصبح ده ؟
فرد رجب :أنا قلت لأحمد بيه وقالي هيبعت حد يأخده 
فرد حارس العنبر: يا أخي حرام عليكم ده الواد ميت من الصبح وريحتوا هتطلع !أقشعر بدني من الكلمة سألت الحارس متوجسأ :في حد مات ؟
فرد غير مكترث : آه ..واحد زميلكم مات الصبح 
سقطت كلماته في قلبي كالسكين ..هممت بوضع يدي على قلبي لكني تراجعت ووضعتها على جبهتي ..كنت خائفاً أن أساله عما يدور بخلدي فيجبني بما أخشاه ..تنفست بعمق ثم سألته : فين ؟
كنت أقصد في أي زنزانة مات ؟ لكن صدمني حين أشار بيده إلى اليمين وقال: أهو على جنب 
سرت قشعريرة بجسدي خفضت رأسي مستجمعا قوتي لأنظر حيثما أشار كنت لدي إحساس أني سأرى وجها أعرفه جيدًا 
ببطئ رفعت رأسي ونظرت عن يميني فرأيت شخصاً ملقي على الارض مدرجا في بطانية داكنة كالحة من بطاطين المعتقل ..قدمي متسمرة  عصية وأنا أحاول جاهدا جرها نحو الجثة 
كانت خطواتي إليها مؤلمة ثقيلة كأنما كنت أخطو على دمي ..وقفت إليها مختنقا مكظوما  كأن الدمعة أخذت بحلقي ثم انحيت فنسكب الدمع من عيني على غطائها ...تذكرت أن قبور الناس تسقيها السحاب ونحن قبورنا تسقيها الدموع 
لا تطاوعني يدي لأكشف الغطاء عن وجهه ..أصبحت لا أقوى على منع بكائي . جثة ملقاة على سقيع الارض بلا أهل ...بلا بواكي.. بلا حتى وطن !أردت أن أطبع قبلة على جبين هذا الراحل بلا مودعين وأهمس في أذنه معزياً بقوله تعالى " والله خير وأبقى "قلت بسم الله وكشفت الغطاء عن وجهه فراعني ما رأيت .. لطمت راحتى عينايَّ .. ظللت أردد مصدوما  "إنا لله وإنا إليه راجعون "اختلطت كلماتي ببكائي بدموعي بحزني بألمي بكل ما تراه عيني .
إنه كما توقعت "محمد الصعيدي" ذلك الشاب الصغير الذي دخل المعتقل منذ ثمان سنوات ولا يعرف في الدنيا سوى أخيه الصغير وأمه العجوز وحسب !شاب جُمعت فيه كل براءة الدنيا وطيبتها ومآسيها أيضا 
علا بكائي  فرق الحارس لحالي ووقف بجواري يواسيني : وحد الله يا شيخ .. زميلك راح لربه واستريح من الدنيا والسجن ..ربنا يرحمه ويرحمكم 
استأذنته أن أصلى عليه فقال :بس بسرعة يا شيخ قبل ما أحمد بيه يدخل ويشوفك .
صليت سريعا ثم جلست بجواره لدقائق أخيرة أودعه فيها وهو صديقي الذي طالما أضحكني وأبكاني وشاركني أسراره وهمومه .. تذكرت طيبته ورقته وأحلامه وحكاياته وأمانيه  ..كل ذلك صار مدرجا الان معه في تلك البطانية 
قال الحارس خلفي : ياله يا شيخ عشان تدخل زنزانتك ... مددت يدي إلي جثة صاحبي فمسحت جبينه ووجهه ..أهتز جسدي وعلا نحيّبي وأنا أودعه : قلت له بصوت مكتوم وأنا أنحني على جبينه : "يا محمد إنك تَقدُم على الله تعالى فأرفع إليه مظلمتنا " قبلته وبكيت بكاء مريرا والحارس يقودني إلى زنزانتي القديمة حيث كنت مع محمد وإخوانه قبل يوم واحد .وحين دخلت عليهم باكيا نكأت جراحهم فسالت دموعهم ولم تكن جفت منذ الصباح 
جلست حيث كان محمد يجلس وأخذت أتأمل حياة هذا الشاب الذي أعتقل قبل أن يبلغ العشرين من عمره حيث كان لا يعرف من الدنيا سوى أخيه الصغير وأمه العجوز الذي مات زوجها وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئا فكانت تعمل في الحقول وتخدم في البيوت لتربي طفليها .
وحين شب محمد على قدميه لم يكن يملك رفاهية التعليم و دخول المدرسة بل كان يعمل منذ وعيَ الدنيا ليُعيل أمه وأخيه الصغير الذي استطاع أن يلحقه بالمدرسة 

كان محمد يستيقظ فجرا فيحمل فأسه ويخرج ليعمل في حقول الناس ويعود مع غروب الشمس بخمس جنيهات في يديه ليطعم بها أمه وأخيه 
لم يكن في بيتهم تلفاز أو ثلاجة أو حتى سرير .. لم يكن محمد يعرف من الحياة سوى الفأس والحقل والفقر وبيت بلا كهرباء ولم يكن يخطوا يوما في غير طريق الحقل سوى إلى طريق المقابر حيث يزور قبر والده الذي لا يتذكر ملامحه وحين خرج محمد يوماً لزيارة والده هاله جنازة مهيبة يتبعها جمع كبير وحين سأل عنها قالوا إنه أحد الشيوخ المعروفين أسمه الشيخ "عرفه درويش قتل على باب المسجد ..لم يفعل محمد شيئاً سوى أنه أراد أن يأخذ ثوابا وبركة من المشاركة في دفن هذا الشيخ فتقدم بقوة ونزل المقبرة فمسحها من الحصى ثم جرى بعيدا فاحضر الماء وسعف النخيل للمقبرة ثم عاد لبيته ليقضى باقي عطلته بين أمه وأخيه !وفي المساء كانت جحافل الامن المركزي وضباط أمن الدولة يقتحمون منزلهم الفقير ويقتادون محمد إلى حيث لم ولن يعود
كانت تهمة محمد أن أحد جواسيس أمن الدولة قدم تقرير للجهاز بما حدث في جنازة الشيخ عرفه الذي قتلته أمن الدولة بالرصاص على باب المسجد  و ظهر أسم محمد في التقرير باعتباره أحد البارزين في إجراءات الدفن وبالتالي تم تصنيفه كأحد أعضاء الجماعة والمقربين من الشيخ القتيل وبعد جولة في دوائر التعذيب ألقى الفتي في المعتقل
محمد لم يخرج من قريته إلا مكبلا في سيارة أمن الدولة ولم يرى القاهرة إلا من سيارة الترحيلات التي نقلته للمعتقل ولم يعرف الحياة إلا من خلال ما نقصه عليه منها ..كان شخصا نادرا بطيبته وبراءته وعفويته ..كان يجبرك على الإبتسامة حين تنظر إليه ..لا يغضب لا ينفعل هو دائما مندهش ومتعجب مما يسمعه ويراه .
حتى استيقظت في ليلة على أنينه وهذيانه كان يتصبب عرقا ويهذي بصوت مسموع..وضعت يدي على رأسه ففزعت من حرارته المرتفعة ،أيقظت الدكتور سالم - أحد المعتقلين العشرين معنا في نفس الزنزانة –جس الطبيب حرارته وبدء الفزع على وجهه أمرني فأحضرت الماء ووضعت الكمدات على جبينه وتحت إبطيه وخلف ركبتيه ...كان محمد يتصبب عرقا بغزارة شديدة ويهذي بأخيه الصغير الذي ترك الدراسة ليكمل العمل والكد على والدته المريضة التي يشتاق لرؤيتها .
كانت كلماته قاسية لا تقل حرارتها عن حرارة جسده الملتهب ..همس إليَّ سالم : الماء لن يجدي، أحمله معي لدورة الماء حملناه وأجلسناه على أرضية الحمام وبدء سالم يصب الماء على جسده كله كانت الحرارة مستعصية الإنخفاض دقائق طويلة حتى بدء الامر يتحسن.في الصباح أخبرني سالم أن محمد مصاب بالدرن "السُّل" وهو مرض منتشر في المعتقلات نتيجة لسوء التغذية وعدم التعرض للشمس وضيق نوافذ الزنازين التي لا تسمح بالتهوية .
حين أخبرني شعرت أني أشاهد اكثر المشاهد مأساوية في حياتي فالسُّل في المعتقلات مرض قاتل حيث لا غذاء ولا دواء ولا هواء ثم هو من أكثر الامراض المعدية انتشارا مما يدمر نفسية المريض ويضعفها على المقاومة .كان محمد كثيراً ما يجلس إليَّ قبل هذا فيحدثني عن بيته الفقير وأمه المسكينة وأخيه الصغير وحياتهم المتقشفة التي لم تكن تنقصها دراما الاعتقال .كان بداخله يشعر بالمسؤولية عن مصير عائلته الصغيرة الذي تحطم تماماً ثم يرجع فيقول إنه لم يفعل شيئا يستحق عليه هذا الظلم الذي أستمر لسنوات ثمان ..كان يتلظى على الظلم كل ساعة يقضيها بين أسوار المعتقل ...قال لي إنه يبكي كثيرًا بالليل حين ينام رفقائه في الزنزانة لأن والدته وأخيه لا يأتون لزيارته سوى مرة واحدة في العام وحين يحضرون لا يحملون معهم شيئا له بسبب فقرهم .
قال لي يوما : لو كنت غنياً أو كان لي عائلة أو حتى كان لأهلى في الخارج مورد رزق يكفيهم لما حزنت من اعتقالي وإن أستمر مدي الحياة لكنهم اعتقلوني هنا وقتلوا أهلى جوعا في الخارج !لم يكن المسكين يدرك أن أمن الدولة سيقتله هنا كما يقتل الفقر أمه وأخيه في الخارج .
تذكرته وهو ملقي في مدخل العنبر على الارض الباردة بلا هيبة بلا قيمة بلا حرمة بلا شيئ سوى خرقة بالية ودمعة متحجرة في المآقي 
تذكرته حين قالي لي وهو يضحك من نفسه إن ضابط أمن الدوله سأله عن دخله  الشهري فقال محمد 150 جنيه يابشا ..فضربه الضابط وقال له: يا أبن ... ده أنا بجيب بيهم فاكهه وأنا مروح بالليل !تذكرته وهو ما ينفك يؤكد لنا ونحن نعلمه القراءة والكتابة أنه لا يفعل هذا  لينافسنا في الكليات والمعاهد ولكن ليقرأ القران فحسب .
تذكرته وقد فارق الدنيا كما دخلها فلم يعبأ به أحد لا في مقدمه ولا في رحيله .تذكرته في أيامه الأخيرة حيث كانت حالته النفسية والصحية تتسابقان في الإنهيار كنا دائما نستيقظ على هذيانه والحمى تكوي جسده بلا رحمة .
كان لا يهذي سوى بأمه العجوز وأخيه الصغير يشتاق إليه ويطلب رؤيتهم
كان يجلس دائما وبجانبه اكوام من الخرق الملطخة بالدماء التي بنزفها من فمه أثناء سعاله المتواصل
أخبرني سالم أن حياته في الرمق الأخير  قمت فجلست بجواره انظر في عينيه ووجهه الشاحب كوجوه الموتي نظر إليَّ وهو يبتسم قائلا :إن شاء الله امي هتيجي تزورني هذا الاسبوع ..بقالها سنة وشهرين مجتش ..قلت له مازحاً: يا عم مش هتيجي ولا حاجة دول مصدقوا خلصوا منك ومن مشاكلك ..ضحك وسعل كثيرا وبصق الدم من فمه في خرقة .
قلت له أبشر يا صعيدي ان شاء الله انت الي هتخرج لهم مش هما الي هيجولك .
تحزن لأني سأذهب لبيتكم وأقابل أسرتك وسيكون كل شيء بخير.
 وقتها هز رأسه مبتسما متألما ً لم يقوى الوقوف لوداعي فانحنيت إليه فاحتضنته وودعته .
وحين عدت كان  محمد قد خرج بالفعل ..ليس على أمه واخيه لكن إلى القبر ..لم يخرج على قدميه لكنه خرج في نعش الموتى
لم يستقبلني ولم يودعني ..رحل بلا مراسم ولا طقوس و لا داع .. ودع الدنيا بأسرها وصعد إلى الله بمظلمته ومظلمة أخيه ومظلمة أمه ومظلمتنا جميعًا

 وانضم إلى قافلة "الراحلون" الذين تبخروا في قعر المعتقلات بلا ضجيج ولا بكاء ولا  أهل ولا مشيعون ..رحلوا وأعينهم تشتاق لضياء الشمس وأنفاسهم تتوق لنسمة الصباح
الراحلون هناك للأسف كُثر ...لكن لا أحد يذكرهم ..لا تحفظ أسمائهم ولا تطبع على الجدران صورهم ,,لا يصرخ صوت يطالب بثأرهم .. إنهم نقش باهت في ذاكرة الوطن لا يعرف أحد معالمه 
الراحلون هناك غرباء ...عاشوا غرباء ..رحلوا غرباء ... وظلوا بين قومهم غرباء
خرجتُ من المعتقل بعد رحيل محمد بقرابة أربع سنوات وحين حاولت الوصول لأسرته لم أنجح ..وكأنه مصمم أن يظل فقط ذكرى تحرق الضلوع فحسب 
بائسة هي هذه الحياة
(كان في الترحيلة أخ أسمه رجب من محافظة الفيوم معتقل منذ ثلاث سنوات وغير مسموح لأهله بزيارته ، جلس بجواري وظل يقص عليّ اصنافاً من التعذيب الذي يمارس عليهم في معتقل الوادي الجديد حتى قتل منهم قرابة السبعين شخص في حفلات التعذيب التي يستقبلون بها المعتقلين وتسمى "حفلة الاستقبال"
كان سماع قصص التعذيب ومأسي الفراق هي أخر ما أود الإستماع إليه لكني أحسست أن رجب لديه ألم عميق يسّري عنه بالحديث معي.. ظللنا نتبادل الحديث وابتسامته الصافيه لا تخفي ملامحه الحزينة ..وحين سألته "أنت متزوج يا رجب تلاشت عن وجهه الابتسامة وقال هامساً متحسراً "أيوه الحمد لله"
أحسست بالحسرة تقتر من كلماته سألته عندك اولاد ؟ 
هناك أختنق صوته بالبكاء وأغرورقت عيناه ..حاول أن يتصنع البسمة وهو يقول عندي عائشة ..أطرق رأسه ووضع يده على عينه يمسح دمعة متمردة لم تستجيب لرغبته في الكتمان وهو يقول :اعتقلت وعمرها سنة واحدة وحتى الان لم أرها .
اضاف وهو يبكي :أ حد إخونا في معتقل الوادي اعتقل وطفله في سن عائشة وحين سمحوا لأهله بزيارته بعد خمس سنوات وقف الولد ليقول لأبيه الذي يراه للمرة الاولى "ازيك يا عمو"
كانت ملاحم رجب تمزق اوصالي اكثر من كلماته ... مبتلي أنا بمصاحبة البؤساء ...وماذا عسى بائس مثلي ان يصنع له !!
سألته :إذا كنت من الفيوم وونحن هنا الان فيها فلماذا لا نتصل بأهلك ونخبرهم بمكانك فيأتون لزيارتك ؟
قال طلبت من الضابط فرفض و قال ممنوع 
قلت له مازحا " يا سيد رجب الجرائم الكبري لا يصنعها إلا اصحاب الرتب الصغري ..يا عم احنا في قسم شرطة  يعني عشرين جنية لمخبر ولا شاويش هيخلص الموضوع ..قمت بالفعل وتحدثت مع الشاويش وكالعادة جرت مفاوضات ومقايضات أخذ الشاويش بعدها رقم تلفون بيت رجب واتصل بهم ليأتوا لزيارته ..
كان رجب متوترا يخشى ان تظهر الساعة على وجهه ثم لا ينالها فيصاب بحسرة مضاعفة ...ولا عجب في هذا فالمرء حين يطول شقاوه يصعب عليه ان يتهلل للفرح حين يطرق بابه يوماً

بعد ساعات قليلة وقف الشاويش على باب الزنزانة وقالي يا شيخ خالد أهل رجب بره بس مش هينفع يدخلوا عشان المأمور قعد ظابط يشوف الدخول لزيارة المسجونين والقسم اتقلب من ساعة ما قالوا السياسيين جيين 
قلتله يا عم يقولوا دخلين لأي متهم وخلاص ..قالي والله ما هينفع ده زوجته منقبة وهيعرف انها جايلكم و هيدخل معها لحد ما يشوف دخله لمين عرضت عليه اموال اخرى فرفض عرضت عليه فكرة أن تدخل أبنته مع أي أسرة داخلة لزيارة المحبوسين جنائيا ثم تأتي لزيارة والدها فوافق 
أخبرت رجب أن يتهيأ لرؤية طفلته ... كانت المرة الأولى التي أرى إنسان يرتعش من السعادة ...تتعثر قدماه ويعجز عن الوقوف ..عيناه تذرف الدمع صبابا..
قام رجب فاخرج ثياباً بيضاء نظيفة وتعطر ومشط شعره ..وجلس بجوار الباب كأنه سيفتح الان ليخرج إلى الدنيا المحروم منها منذ سنوات 
كنت أقف على شباك الباب أرقب القادم ورجب يجلس تحت قدمي حين دخلت طفلة تشع براءة تتلفت حولها تبحث عن أبيها وخلفها الشاويش يحمل كيس الطعام الذي عجزت يدها الرقيق عن حمله 
كانت الطفلة تنادي :أبي ..أبي أنتفض رجب واقفاً ينظر لطفلته التي لم يرها منذ ثلاث سنوات ..ضغط على صدره بقوة لينطلق باسمها بلا نحيب:عااائشة ..تستمرت عينهما طويلا 
قلت للشاويش أفتح الباب بسرعة ...ففاجئني قائلا بكل برود :مش هينفع والله يا شيخ خالد 
صرخت فيه أنت بتستهبل أفتح الباب ..الراجل نفسه يأخد بنته في حضنه ..طأطا رأسه قائلا والله العظيم مفتاح الزنزانة دي في مكتب المأمور ذات نفسه ..ضربت رأسي في الحائط ونظرت إلى رجب الذي لم ترتفع عيناه عن طفلته.. قلت للشاويش طيب شيل عائشة عشان تسلم على أبيها 
حملها الشاويش على شباك الباب وأصبحت وجها لوجه أمام أبيها لا يحول بنيهم سوى هذه القضبان الغليظة الظالمة
ليتني ما وقف ساعتها بجوارهم ..ليتني أصلا ما عرضت على الرجل رؤية ابنته ...ليتني ما رأيت هذا الموقف ولا سمعت هذه الكلمات التي لا تزال تعتصر قلبي

بكل براءة الدنيا مدت عائشة يدها الصغيرة بين القضبان إلى لحية أبيها المبتلة وهي تقول :وحشتني أوي يا أبي ..أنا عرفاك كويس ...وبحبك أوي ..ماما بتوريني صورتك كل يوم الصبح وتقولي أبي في سبيل الله ..عايزه أبوسك يا أبي ..أنا ببوس الصورة كل يوم الصبح .. بس عايزه أبوسك أنت ..كانت أناملها الصغيرة تسرح بنعومة في لحية أبيها المبللة بدمعه الحار والذي لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة ... لم تفاجئني دموع الشاويش فلو شاهد الشطان هذه الموقف لبكي ... الا مبارك وزبانية أمن الدولة
كانت عائشة ذات الاربع سنوات ترتجل لأبيها بكل الحب ما تستطيع قوله : أمي واقفه بره مش عارف تدخل ..هي بتعيط ..بس هي اديتني الاكل وقالي لي ابوس ايديك واسلم عليك ... احنا مستنينك يا أبي في البيت ..انت مش هترجع يا أبي معانا ..طيب هترجع امته ..
كنت أشعر بكلماته البريئة تكوي أضلعي قبل أضلع  والدها العاجز حتى عن احتضانها ..كانت رجب يمسك بكف أبنته ويقبله ..حين قال الشاويش معلش يا شيخ كفاية كده والله العظيم لو بيدي كنت فتحت الباب ولا حتى روحته ...
كانت عائشة ساكتة تنتظر من ابيها كلمة وهو الذي طال سكوته لعجزه عن الكلام 
فقلت لها يا عائشة قولي لماما بابا كويس وبيسلم عليكم كلكم وان شاء الله هيرجع قريب وهيوديك المدرسة كل يوم ..تحرشج صوتي وعجزت عن إكمال الجملة 

نطق رجب بكلمات متقطعة لطفلته :أنا بحبك أوي يا عيوشة ... أنت نور عيني يا حبيبتي ..قاطعه الشاويش والله ما هينفع أكتر من كده يا شيخ ياله يا عائشة .. قالت عائشة بسرعة وكأنها تذكرت شيئا هاما لأبيها ..ماما عملتلك الاكل إلي بتحبه وجبنالك عنب وحاجة ساقعة ... وببراءة شديدة قالت مع السلامة يا أبي ..مع السلامة يا أبي ولوحت بيدها ثم اختفت .. انخلع قلبي من هذه الكلمة .. وضعت رأسي بين ركبتي وأنهمرت في البكاء ...كان الجميع يبكي ..يتألم ..يئن .يشكوا إلى الله هذا الطغيان الوحشي ..يدعو على مبارك وأمن الدولة ..يطلب الرحمة من الله تعالى 
لم استطع ان اقترب من رجب طول هذه اليوم ..وفي الصباح كانت قرارات الاعتقال الجديدة صدرت من أمن الدولة عاد رجب لمعتقل الوادي الجديد ..وعدت أنا لمعتقل الفيوم 
وظلت عائشة بيدها الناعمة وكلماتها البريئة تنغص عليّ حياتي وتسيل دموعي حتى لحظة كتابتي لهذه القصة بعد سماعي خبر رفض طلب علاء وجمال الانضمام لمبارك في مستشفي السجن 

اللهم فرق بينهم وبين ما يحبون ..كما فرقوا بين الاب وابنته وبين الام ووالدها وبين الزوج وزوجته)


إقرأ أيضا : القصة الخامسة عشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق