تضحيات أسر المعتقلين



من كتاب حسن على

(وعندما نزلت أول مرة وكنت لا أعرف ما هو سبب وقوف هؤلاء الناس أمام مبنى النيابة حتى سألت أحد الإخوة بجواري ممن له خبرة في الموضوع فأخبرني إنهم يأتون في مواعيد الجلسات لكي يروا أبنائهم وذويهم أو أقارب لهم ويسلموا عليهم، فكان هؤلاء الأهالي يدخلون لنا الطعام من شرفة صغيرة في حجز النيابة برغم أنهم لا يعرفوننا ولا نعرفهم وكانوا يعرضون أنفسهم أيضا للمضايقات من قبل الحرس الذين يقفون على الحجز من الخارج، وكانوا يعطوننا طعام أبنائهم إشفاقا علينا وقد علمت أن بعض الأمهات كانت تأتي بصفة دورية حتى ولو لم يكن ميعاد نزول أبنائهم لكي يعطين الأطعمة والتي أحضروها معهم لأي أحد يرونه في الحجز من الإخوة، كانت هذه التصرفات لها وقع جميل في نفوسنا لا ننساها حتى هذه اللحظات.)
(وعند نزولي إلى مبنى الطب الشرعي كان معي أحد الإخوة فتعرفت عليه فعرفت أن اسمه سيد وفي الطريق توقفت بنا السيارة أمام سجن ليمان طرة ونزل الضابط لقضاء بعض الأشياء في داخل السجن، وأثناء ذلك كانت مجموعة من النساء بعضهن من كبار السن وأخريات منتقبات واقفات أمام السجن وعندما رأيننا أقبلن علينا فسألتنا إحداهن من أين أنتم؟ فأخبرناها أننا من سجن أبي زعبل فقالت أنا والدة أحمد الحسيني وهذه والدة فلان وهذه كذا وهذه كذا ثم أخبرتنا أنهم محكوم عليهم في قضية محاولة اغتيال وزير الإعلام[1] وأن تنفيذ الحكم سيتم خلال مدة بسيطة فجئنا لكي نراهم قبل الإعدام ونحن أملنا في الله أن يتقبلهم في الشهداء وأن يشفعوا لنا يوم القيامة فنحن لم نعمل شيء يشفع لنا لعل ذلك يكون شفيع لنا وقالت كلام كثير أثر فينا حتى كدنا أن نبكي ولكننا تمالكنا أنفسنا حتى لا تضعف معنوياتهن ثم قالت أخرى نحن والحمد لله صابرين على أمر الله ثم نصحننا بالثبات على الدين وأن نكون نحن أيضا حريصين على الشهادة وأن تكون هذه أمنية حياتنا حتى نوفق للموت على الشهادة ثم دعون لنا بالثبات على الدين فتعجبنا من حالهن فمن المفترض أن نقوم نحن بتثبيتهن في هذا الموقف ولكننا وجدنا عكس ذلك ثم قالت إحداهن هل تحتاجون إلى أي شيء نستطيع أن نأتي به إليكم فأنتم مثل أولادي فتعجبنا أكثر فهن في حاجة إلى من يقف بجوارهن في مثل هذه الظروف ومع ذلك يسألننا وكأنهن شغلن بنا أكثر من أبنائهن فشكرناهن ثم أنشدنا لهن نشيد يقول مطلعه: تدلت الحبال ليشنق الرجال، وكان مؤثرا فرأينا عند ذلك أن الدموع تنهمر من أعينهن)

مدونة منيب

ولم تكن معاناة أهلى المعتقلين منحصرة في الأعباء المالية بل كانت الأعباء البدنية لا تقل عن ذلك بل تزيد حيث قطع المسافة من البيت إلى سجون لم يكن بينها وبين البيت أقل من مائة كيلوا في أحسن الأحوال و كثيرا ما كانت تزيد عن ذلك وتصل لأكثر من خمسمائة.....الخ.و أذكر عام 1999م أثناء محاكمتى عسكريا أن الجلسات كانت يومية ونظرا لأن الزيارة كانت ممنوعة في السجن بما في ذلك دخول أى طعام من أهالينا فقد كانت أسرنا تأتى كل يوم للمحكمة وتعطينا وجبة طعام تكفى ليوم واحد و كان مقر المحكمة بالهايكستب, ولم تكن المحكمة تسمح لهم بمغادرة القاعة إلا بعد مغادرتنا وكنا نحضر في السابعة صباحا ونغادر في العاشرة مساءا ورأيت أكثر الأسر ينامون وهم جالسون في قاعة المحكمة من الإرهاق وقلة

النوم فهم يغادرون بعد العاشرة مساء للبيت ثم يجهزون الطعام لليوم التالى ثم ينانون ثلاث ساعات ثم يعودون مع الفجر للسفر إلى مقر المحكمة و هكذا لمدة أسبوع متواصل.)
(و هذه كانت أحد أهم أهداف السجون الجديدة و لذلك عندما كان يتم إعداد المجموعة التى ستنقل لسجن الواحات (الوادى الجديد) إستبعد منها كل المعتقلين من أبناء واحة الخارجة و محافظة أسيوط لأنهما أقرب مكانين من سجن الواحات, ونفس الشئ بالنسبة لسجن دمنهور إستبعد منه أبناء محافظتى الإسكندرية و البحيرة, و بصفة عامة كانت سجون الوجه البحرى (أبو زعبل والنطرون و دمنهور) من نصيب أبناء الصعيد بينما سجون الوجه القبلى (الواحات و الفيوم) من نصيب أبناء الوجه البحرى.
لكن هذا الهدف سرعان ما خابت أمالهم بشأنه, فعندما ذهبنا لهذا السجن كانت زيارة أسرنا لنا ممنوعة لعدة شهور لكن عندما تم السماح بها, كانت النتيجة مفاجأة لإدارة السجن لقد كان الزائرون أكثر من مائة أسرة يوميا.
لقد كانت أسر كثيرة لاتجد قوت يومها ومع ذلك كانت تأتى لزيارة أبنائها بتكلفة مواصلات للزيارة الواحدة تعادل مرتب شهر كامل لموظف حكومى من خريجى الجامعة هذا فضلا عن تكلفة الطعام الذى يحضرونه معهم, و كان هناك دائما بدائل عدة في المواصلات ما بين مواصلات غالية جدا و مريحة نسبيا كالطائرة بالنسبة لسجن الواحات و كذا الأتوبيس المكيف, و مواصلات متوسطة من حيث السعر و الراحة و أخرى شديدة المشقة لكنها منخفضة السعر نسبيا.
كما كان الزائرون من نساء و أطفال يبيتون في الطريق جيئة و ذهابا لطول المسافة ما لم يأتوا بالطائرة, كما تعرض بعض النساء لتحرشات جنسية في الطريق لأنهن لم يكن معهن رجال من أقاربهن و كان الطريق طويلا و موحشا, و كان الأقارب من الذكور يصعب عليهم الحضور للزيارة في هذه السجون البعيدة لأن الكثير منهم تعرض للإعتقال فى الطريق إلى السجن, و حدث هذا مع زوج أختى عندما صحبها لتزورنى في سجن الواحات (الوادى الجديد) حيث تم إعتقاله و هو على الطريق من القاهرة لأسيوط, و قد حاول أن يتخلص من الإعتقال بأن ذكر لهم حقيقة أنهم لن يسمحوا له بالدخول للزيارة لكنه مجرد مصاحب لزوجته بسبب طول الطريق و مخاطره لكنهم أصروا على إعتقاله, فعرض عليهم أن يتم مع زوجته الرحلة لزيارتى ذهابا و إيابا ثم يسلم نفسه فرفضوا, و تركته أختى مع الضباط في أسيوط و أكملت الرحلة للسجن لتزورنى وحدها ثم رجعت وحدها أيضا
و مع ذلك لم ترض إدارات هذه السجون بهذه النتيجة بشأن الزيارات بل عمدت لألوان مختلفة من التضييق في الزيارة منها منع دخول معظم الطعام الوارد في الزيارة و كذا الأدوية, و منها منع الزيارة بشكل مفاجئ بعد أن يصل الزائرون للسجن, و أنا شخصيا حدث ذلك مع أسرتى فلدى وصولهم لسجن الواحات قادمين من الهرم قدموا تصريحا رسميا بالزيارة صادر من النائب العام إلى إدارة السجن و وافقت إدارة السجن على الزيارة و كان مجموع الزائرين يومها أكثر من 120 أسرة, و دخلت الأسر إلى فناء السجن و إستلمت إدارة السجن الطعام من الأسر و فتشته, و تهيأت الأسر للدخول إلى الطرقة التى بها حواجز السلك كى ترى أبناءها عبر حاجزين سميكين من السلك و كانت المسافة بين المعتقل و زائريه عند إجراء الزيارة أكثر من متر يتخللها هذان الحاجزان, وعندما همت أسر المعتقلين أن تجتاز الطرقة المؤدية لهذا السلك فوجئت بمنعها من الزيارة لأن الزيارة قد تم منعها, و كان السبب الذى ذكروه وقتها أن فاكسا جاء للتو من وزارة الداخلية بمنع الزيارة, وعلمنا بعد ذلك أن هجوما مسلحا قد تم على فندق بشارع الهرم.
و من حين لأخر كان يتكرر إجراء منع الزيارة هذا بشكل مفاجئ يتم فيه إرجاع الزائرين بحيث ترسخ لدى الكثيرين أن الذهاب للزيارة مجازفة لا يمكن توقع عواقبها.
ولم يكن منع الزيارة من حين لأخر بشكل مفاجئ هو الأسلوب الوحيد المتبع لدفع الأسر للإمتناع عن زيارة أقاربهم بل كانت هناك إجراءات أخرى عديدة جرى إتباعها, منها أنه في فترات عديدة جرى تحديد عدد المعتقلين الذين يسمح لهم بالزيارة يوميا تارة بعشر معتقلين من السجن كله و كثيرا ما تم التحديد بأربع معتقلين فقط, و يتم إرجاع أسر بقية المعتقلين كل يوم, وللقارئ تخيل حجم الظلم بل الإجرام في هذا الإجراء إذا علم أن عدد المعتقلين في هذا السجن فاق وقتها 4500 معتقلا و أن أسرهم يقدمون لزيارتهم من مسافات في حدود 1000 كيلو مترا و سيرجعون نفس المسافة دون أن يروا قريبهم المعتقل و دون أن يطمئنوا عليه و طبعا سيلقون بالطعام الذى أحضروه له في الشارع لأنه لن يحتمل أن يبقى دون فساد خلال مسافة الرجوع.
و لم يتوقف الأمر عند هذا فقط, بل إن الأجهزة المختصة عندما رأت إستمرار الزيارات رغم كل هذه العقبات قررت إجراءا جديدا و هو أن الزيارة مع تحديد عددها بأربعة زيارات فقط في اليوم فإنه يتحتم أن تكون عبر حجز مسبق يتم في السجن بأن تقطع أسرة المعتقل المسافة للسجن و التى تقدر بألف كيلومتر كما قلنا من قبل فتأتى الأسرة بتصريح الزيارة الصادر من النائب العام معها و تقدمه لإدارة السجن والتى تحدد لهم موعدا للزيارة يكون عادة بعد شهرين أو ثلاثة ثم تعود للسجن في الموعد المحدد لتزور.
و لكن هل اكتفت الأجهزة المسئولة بذلك فقط؟!؟
طبعا لم تكتف بهذا, فقد جرى غالبا منع الكمية الأكبر من الطعام الوارد مع أسر المعتقلين ولم تسمح إدارة السجن إلا بدخول كمية ضئيلة جدا جدا منه تقدر بنحو15% منه, ولعل القارئ يتسائل لماذا لم تواظب أسر المعتقلين على إحضار كمية ضئيلة تخلصا من مشقة الرجوع بمعظم الطعام؟؟
و الإجابة: هى أن أسر المعتقلين كانت دائما تأمل في أن يصل قريبهم المعتقل أكبر كمية ممكنة من الطعام و كانت في كل مرة تأمل أن تسمح إدارة السجن بما لم تسمح به سابقا, و كانت إدارة السجن تعزز هذا الإحساس لديهم بأن تقول لهم المرة القادمة الوضع سيتحسن و نحو هذا, كما كانت تمنع كل مرة شيئا مختلفا عن سابقتها من أنواع الطعام والملابس والأدوية كما تسمح كل مرة بشئ مختلف عن السابق, فكان توقع ما الذى سيسمح به أو يمنع أمرا شبه مستحيل.
و من ناحية أخرى فإن الأسر لم تكن تتحمل عناء حمل الطعام أثناء العودة من السجن بل كانت تلقيه في الطريق لأن بعد المسافة لا يسمح ببقاء الطعام بلا فساد بعد الخروج من السجن.
ولكن هل إلى هذا الحد توقفت مضايقات الزيارة؟؟
لا, لم تتوقف, فكما قلنا من قبل فإن لقاء المعتقل بزائريه كان يتم بحيث يفصل المعتقلين عن زائريهم حاجزان من السلك المعزز بقضبان من الحديد, وكان يفصل ما بين الحاجزين متر و نصف من الفراغ الذى يعتبر طرقة كان يجوبها السجانون و السجانات أثناء الزيارة, ولم تكن هذه هى المضايقة الوحيدة في الزيارة بل كانت المضايقة الأكبر هى حشد عدد كبير من المعتقلين للزيارة في وقت واحد بحيث يصير كلامهم مع أسرهم مجرد ضوضاء عالية لا يسمع فيها أحد الأخر, كما تعمدت الأجهزة المسئولة عن السجن تحديد وقت الزيارة بما لايزيد عن ثلاث دقائق أو خمس على الأكثر.
ولم تكن الضغوط على أسر المعتقلين من أجل التخلى عن قريبهم المعتقل مقتصرة على إجراءات السجن بل تمت ممارسة ضغوط على العديد من الأسر في بيوتهم كى يمتنعوا عن زيارة أقاربهم المعتقلين أو إرسال نقود لهم بحجة أن مساندة أسرة المعتقل لقريبهم المعتقل بالمال و الطعام هو نوع من مساندة ما هو عليه من تطرف و إرهاب مزعومين, و أن مساندة الأسرة له تشجعه على الإستمرار في ذلك و من ثم فأسرته تضره بهذه المساندة ولا تنفعه لأن ذلك سيؤدى لإستمراره في السجن حسب هذه المزاعم.

فى مرة جاءنا سجان الليل و كان بالطبع يبيت بالعنبر لوحده لكن الأبواب التى كانت بيننا و بينه مغلقة و لكن في هذه المرة نسوها مفتوحة فجاءنا و تكلم معنا و قال كيف تتحملون العيش هنا؟
و حكى لنا قصته عندما نقلوه لهذا السجن و كيف بكى بكاء طويلا عندما رأى منظر السجن و الصحراء المحيطة به, كما حكى لنا كيف أن بعض السجانين قد أصيبوا بأمراض نفسية بسبب نقلهم لهذه السجون كما أن بعضهم هرب من الخدمة لهذا السبب.
و أثناء سرد هذا السجان لهذه القصة شردت بفكرى بعيدا لسنوات مضت على هذه القصة عندما كنا قادمين لسجن الواحات وفي الطريق نظر أحدنا من شباك السيارة و قال انظروا كل شئ هنا أصفر أنظروا حتى النباتات كلها صفراء و ليست خضراء حتى النخيل لونه أصفر, فضحك الكثيرون و قالوا له: دعك من هذه الخيالات, لكننى لم أعلق لأننى نظرت من السيارة قبله ولاحظت أن لون النباتات و الأشجار كلها كان شاحبا.
لكننى استفقت من خواطرى على صوت السجان و هو ينهى قصته بصوت مرتفع مكررا نفس السؤال الذى بدأ به حديثه بدهشة و هو:
كيف يمكنكم تحمل الإعتقال في هذا المكان كل هذه المدة؟؟

(ولم تقتصر هذه الضغوط على أسلوب الإقناع بالكلام عبر الترغيب والتهديد
بل وصلت في أحيان كثيرة للضغط المادى الحقيقى و من ذلك ما حدث مع الأستاذ سلطان (وهو مدرس ثانوى من بنى سويف) حيث وجهت له الأجهزة تحذيرا من استمراره في زيارة أخيه المعتقل في سجن الواحات (الوادى الجديد) و إرسال حوالات بريدية مالية له.
فقال لهم: كيف أتخلى عن أخى و هو شخص ملتزم بتعاليم الإسلام بينما المجرمين المسجونين لتجارة المخدارات أو السرقة أو الدعارة لا يتخلى عنهم أهلهم و يزورونهم في السجن.
و استطرد قائلا: إن أخى سياسي شريف و لن أتخلى عنه مهما فعلتم.
قال له الضابط: سأعتقلك.
قال له سلطان: لماذا؟؟ هى البلد ليس فيها قانون؟؟!
قال له الضابط: اتفضل مع السلامة.
و بعد عدة أسابيع كانت بنى سويف على موعد مع إعتقالات واسعة جدا وصلت لأكثر من ألف شخص لمناسبة تولى قيادة أمنية جديدة لمحافظة بنى سويف, و كانت هذه القيادة ذات سمات قمعية معينة في طبيعة عملها.
و كان سلطان أيضا على موعد مع الإعتقال, إذ واتت الفرصة لتنفيذ التهديد الذى وجهه الضابط له.
كان هذا عام 1996م و ظل سلطان في السجن حتى نهاية 2004م, و في هذه الفترة أصيب بحساسية شديدة في الصدر لم يكن يجدى معها حتى الكورتيزون, وكذلك أصيب بعجز في جزء كبير جدا من الكبد عن العمل بسبب تليف كبير جدا انتشر بها, وكذلك قرحة خطيرة جدا بالمعدة والمرئ, هذا فضلا عن الدرن المعتاد في هذه السجون.
و هناك العديد من الأسر التى وجهت لها تهديدات بسبب الزيارات أو الشكاوى التى كانت تقدمها للصحف أو لمنظمات حقوق الإنسان أو حتى للأجهزة الحكومية, و قد حكى لى العديدون من المعتقلين من كل المحافظات عن هذه الإجراءات, و منهم شعبان من المنيا الذى إحتجزوا أشقائه أيام عديدة للضغط عليهم لئلا يزوروه, و أنا شخصيا سبق و أن استدعوا أبى رحمه الله و مارسوا عليه بعض الضغوط المعنوية بهدف منعه من تقديم الشكاوى للمسئولين بشأن إستمرار إعتقالى رغم عشرات القرارت القضائية النهائية بالإفراج عنى, لكنه رحمه الله رفض بصلابة أحسده عليها.
لم يكن عناء هذه السجون بالنسبة لأسر المعتقلين مقتصرا على هذه المعاناة, بل كان مكان هذه السجون ومنظرها الخارجى يمثل معاناة من نوع أخر, أقصد الضغط النفسى على الرائى بسبب مكان هذه السجون و منظرها من الخارج, فحتى اليوم لو نظر أى إنسان لمنظر سجن العقرب بطرة أو سجن الواحات بالوادى الجديد أو أبوزعبل الجديد أو غيرها لشعر أن هذه مبانى قبور لا يمكن أن يكون بداخلها أحياء كما سيلاحظ أن ألوانها مهما كانت جديدة و ناصعة فإنها في ذات الوقت باهتة و شاحبة كأنما تشكو إلى الله ما يجرى بداخلها من ظلم أذهب رونق ألوانها, و يشعر الرائى بهذا سواء نظر إلى المبنى من الخارج أم نظر للمظهر الخارجى للعنابر من الداخل.
سببت الضغوط المختلفة على أسر المعتقلين و على زيارة المعتقلين معاناة و ضغوطا نفسية على المعتقلين داخل السجن, و لكن لم تكن هذه هي الأسباب الوحيدة لمعاناة المعتقلين بل كانت هناك أسباب أخرى عديدة سببت معاناة للمعتقلين في السجون التى صارت كلها تقريبا سجونا جديدة بعد عام 1993م, منها أن ابتعاد هذه السجون عن العمران و عن موطن أسر المعتقلين أشعر الكثيرين من المعتقلين بالوحشة و شئ من الضعف, كما كانت هذه السجون ذات طقس سئ جدا فسجون الواحات (الوادى الجديد) و الفيوم و وادى النطرون (1) و وادى النطرون (2) كلها في مناطق صحراوية شديدة الحرارة و ضاعف من حرارة السجن سوء التهوية في العنابر و الزنازين حيث حرص مصمم كل السجون الجديدة على تضييق كل منافذ التهوية في كل الزنازين, علما أن السجون الجديدة كلها مبنية على تصميم واحد مع إختلافات بسيطة جدا لا تذكر, أما سجون ليمان أبى زعبل و شديد الحراسة بأبى زعبل و المرج و دمنهور فجمعت بين شدة الحرارة بسبب سوء التهوية و شدة الرطوبة بسبب الطبيعة الزراعية للمنطقة الواقع فيها كل سجن من هذه السجون.
و العجيب أن كلها أو أغلبها كان باردا جدا شتاءا لا أتذكر الآن لماذا؟؟ هل بسبب الجوع الذى كنا نعانيه؟؟ أم بسبب ندرة وخفة الملابس التى كانت متاحة لنا حينئذ؟؟ أم كان بسبب قلة و رقة الأغطية و المفروشات التى سمحوا لنا بها؟؟ لا أستطيع أن أحدد ذلك بدقة الآن لكن أستطيع أن أؤكد أن كل هذا قد حدث بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة.
كما كانت كل السجون الجديدة ذات فناء سئ من جهة إمكانية التريض فيه و من جهة أن أرضها من الخرسانة المسلحة و كنا جميعا حفاة لسنوات طويلة, كما كان ذلك الفناء ضيقا و مسقوفا بشبكة ضيقة نسبيا من السلك تقلل أحيانا من كمية الشمس المتسربة لهذا الفناء, مما يقلل الاستفادة من هذا الفناء في ممارسة رياضة ما, لكن على العموم لم تكن هذه هى مشاكل هذا الفناء الأساسية و إنما كانت المشكلة الأساسية أننا لم يكن مسموحا لنا أن نخرج من الزنازين إلى هذا الفناء إلا نادرا في السنوات الأولى, و كان الخروج لهذا الفناء هو وسيلتنا الوحيدة لرؤية الشمس.
و هكذا كانت مرافق كل السجون الجديدة أشد قسوة من السجون التى بناها الإنجليز أيام الاحتلال, كما أن السجون القديمة التى بناها الاحتلال الإنجليزي كليمان طره و ليمان أبى زعبل و غيرها قد تم بناء عنابر جديدة بها بنفس المواصفات القاسية التى في السجون الجديدة بل أقسى خلال منتصف الثمانينات من القرن العشرين, و لكن لماذا كانت هذه المبانى ذات تكلفة عالية؟؟
طبعا للسبب المعروف للجميع من ارتفاع تكلفة المبانى الحكومية للأسباب الإدارية المعروفة من ناحية, و من ناحية أخرى تم تصميم هذه المبانى بمواصفات تتيح قمع المعتقلين بأقل عدد من الجنود, فالعنبر الذى به عشرون زنزانة بكل زنزانة ثلاثون معتقل يديره و يسطيرعليه جندى واحد, لأنه مقسم لأقسام أربعة لكل منها عدة أبواب تفصل بين باب الزنزانة و باب العنبر الخارجى و الذى يجتاز ذلك كله يظل مسجونا بين جدران السجن العالية أيضا لوجود نطاقات أخرى من الأبواب و الأسوار, و كان المعتقلون يعملون مسابقات حول من يتمكن من عد الأبواب التى تفصل المعتقل في زنزانته عن باب السجن الخارجى و كان هذا سؤالا صعبا يفشل الكثيرون في الإجابة عليه لكثرة الأبواب.
يضاف لذلك أن المعاناة و العقد التى أصابت بعض العاملين بهذه السجون لبعدها عن العمران قد انعكست على سلوكهم في معاملة المعتقلين, فأكثرهم تعامل مع المعتقلين بقسوة كأن المعتقلين هم السبب في نقله لهذا المكان, و قليل منهم تعامل مع المعتقلين بشفقة باعتبارهم شركاءه في نفس المحنة






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق