القصة الثالثة





على مختار القطان

في الزنزانة المجاورة لي في العنبر بسجن وادي النطرون (1) كان يوجد المعتقل علي مختار القطان رجل في الخمسينات من عمره طيب الملامح كث اللحية والتي صبغها الشيب يرتدي نظارته الطبية القديمة وقد فقد تقريباً احدى عينيه والمصحف لا يفارق يديه في فترة التريض كنت ألتقي به وأتحدث معه العديد من الأحاديث الشيقة والذكريات الجميلة التي يسترجعها عن الماضي قبل اعتقاله خمسة عشر عاماً.
إذا تحدث كأنما تستمع إلى صوت الحكمة والتاريخ يؤرخ لك أحداث الزمان بصوت رخيم هادئ خبير بالعديد من الأحداث والثقافات والوقائع السياسية والتاريخية والثقافية مع هذا كله كان يرتدي عم علي البيجامة الميري القديمة والتي صبغها اللون الأصفر من عرق الزنازين الذى لا تمحوه مساحيق الغسيل كنت لا أرى عم علي إلا ممسكاً مصحفه يقرأ فيه أو ممسكاً بالراديو الصغير يستمع لأحوال العالم وأذكر في يوم غزو الأمريكان للعراق رأيت أعصابه مشدودة وقد اعتلاه الغم والهم مثلنا جميعاً وجلست بجواره استمع للأخبار وكان هناك أخين من المعتقلين يستغلون فترة التريض المحدودة في لعب تنس الطاولة فنهرهم عم علي وعتب عليهم أن يلعبوا فى هذا الوقت والامريكان يغزون العراق وطلب منهم أن يدعو الله أن يرد غائلة الصليبيين كان عم علي مختار
عفيف النفس رغم كون أخوه الكبير في السن والمريض لم يكن يتمكن من زيارته إلا في النادر وحتى مقابلته في الزيارة كانت ممنوعة إلا أنه كان عفيف النفس يرفض أن يأخذ طعاماً من المطبخ العام الذي كنا نجمع فيه طعام زياراتنا ونقسمها على الزنازين بالتساوي.
فكان يعيش على الطعام الميري رغم كونه لا يسمن ولا يغني من جوع عم على مختار
هو نفسه ذلك الرجل الذي قال لمبارك في الحرم في عام 1993 اتقي الله

حوار صحفى مع عم على مختار

"على مختار القطان" الذى ولد ونشأ فى قرية 
"
شنشور" التابعة لمركز "أشمون" بمحافظة "المنوفية " كان يعمل فى السعودية والتقى ذات يوم بالرئيس المصرى السابق فى 27 رمضان عام 1993، لينصحه بهذه الكلمات التى دفع ثمنها من عمره، ليروى فصلاً من فصول الظلم التى عاناها الشعب فى عهد النظام السابق الذى اعتقد رئيسه أنه إله يعبد من دون الله.القطان كان يعيش فى المدينة المنورة ويعمل هناك ويذهب دائما للصلاة بالمسجد النبوى ولحسن خلقه أصبح ، معروفًا ومألوف الوجه لدى حراس المسجد وفى ليلة 27 رمضان عام 1993 ذهب ليصلى بالمسجد وذهب ليتوضأ وعند دخوله من باب السلام وهو أحد أبواب المسجد النبوى، وجده شبه مغلق وعند سؤاله عن السبب عرف من الحراس أن "مبارك "بالداخل ولمعرفة الحراس به أدخلوه ليجد "مبارك" بالقرب منه وينتشر حوله سرب من المصورين لالتقاط صور تدل على ورعه، ولإحباك الصورة ابتعد حراسه عنه والحراس بحسب "على القطان" سرب ضخم وكانوا يحملون معهم الأسلحة وهو ما لا يليق بقدسية المكان واقترب الرجل منه حتى أصبح على بعد حوالى ثلاث خطوات وقال له بأسلوب لا يخرج عن حد اللياقة الأدبية "يا ريس اتق الله واحكم بشرع الله حتى تحقن دماء المصريين" فور نطقى بكلمة "اتق الله"، تكهرب الجو وخرج مبارك خائفًا مذعورًا، حيث تصور أننى ربما أحمل معى متفجرات وحزام ناسف، وأمر الحرس فى 5 دقائق أن يقبضوا علىّ دون مساءلة ولا محاكمة ولا حتى استجواب, ووضعونى فى سيارة فولفو وجلس على قدمى رجل ليشل حركتى وقيدونى بكلبش "رومانة" وزنه 20 كيلو فى الطائرة التى أقلتنى إلى القاهرة، وقدموا إلىّ شرابًا مخدرًا قمت برفضه، وأحضروا بعض المنتسبين لفرقة مكافحة الإرهاب وأخذتنى سيارة من ساحة المطار إلى مباحث أمن الدولة، وتم ضربى وتعذيبى تعذيبًا شديدًا ثم أخذونى إلى سجن العقرب شديد الحراسة، ومنه إلى الاستقبال وإلى سجون أخرى فى رحلة اعتقال استمرت حوالى 15 عامًا. ".
- الإسلاميون عانوا الكثير فى عصر مبارك، احكى لى عن هذه المعاناة داخل السجون والمعتقلات.
الإسلاميون أكثر من لاقوا من المعاناة داخل السجون والمعتقلات السياسية، والرئيس السابق عذب وقتل وشرد العديد من المصريين الشرفاء بغرض مكافحة الإرهاب وبحجة المحافظة على الأمن والسلم العالمى, وأفهم الغرب أن الإسلاميين فى قمقم ولو تركهم سيدمرون العالم والحضارة الإنسانية, وأنا يحضرنى الآن حديث "ألان جوبية"، وهو من الشخصيات السياسية ورئيس الجمعية الوطنية وفيلسوف ومفكر، عندما جاء ميدان التحرير، قال باللفظ: "إن هذا النظام مع الأنظمة العربية هم الذين سمموا أفكارنا عن الإسلام، وإن هؤلاء الساسة هم الذين أججوا العداء بين المسلمين وأوروبا والغرب حتى يعطوا مبررًا لبقائهم فى عسكرهم وجلاديهم يحمون لهم الديار ويحفظون عليهم أمنهم وسلامتهم المزعومة، وإن الإسلام هو الذى يهددهم، وقمت بأخذ هذه الأوراق، واحتفظت بها كأرشيف لشاهد على الثورة المصرية مثل "ألان جوبية", والذى حدث فى الميدان شىء كبير وليس لمغادرة رئيس مكانه, ولكنه "حدث كونى"، وزلازل، مازال لم يصمت بعد, وله توابع من التغير البركانى الكبير اجتماعيًا وحضاريًا، وبإذن الله سيعوض الله عز وجل الإسلاميين فى الدنيا والآخرة عن معاناتهم داخل السجون والمعتقلات والتى شاهدوا الويلات وأشد أنواع التعذيب لمجرد التفكير الدينى أو السياسى، وحدثى ولا حرج فى وسائل التعذيب من ضرب بأسلاك الكهرباء وبالصواعق الكهربية والتعليق من الأيدى والأرجل وسكب المياه دون ملابس على المعتقلين ووضعهم فى أماكن ضيقة جدًا، وعدم الخروج للحمام ورمى الطعام من فتحة فى الباب وغلق زنزانات لمدد طويلة تصل إلى 5 و7 سنوات، وقطع الزيارات عن المساجين وتجويعهم، وما إلى ذلك كله من أنواع ووسائل التعذيب، وقد تعرضت فى سجن استقبال طره لحادث أفقدنى عينى اليمنى، حيث تم تكسير الزنزانة علىّ من الخارج، وأدى ذلك إلى دخول حصاة من الحصى المتناثر من الهدد فى عينى، وتركونى حتى استقرت فيها، وفقدت عينى اليمنى، والآن أعالج بقطرة ثمنها 120 جنيهًا للحفاظ على العين اليسرى بعد خروجى من السجن.
- هل حاولت أن تكتب تظلمًا وتعتذر للرئيس حسنى مبارك؟
لا.. لم أحاول أبدًا وأعتبرها إهانة لا أقبلها على نفسى نهائيًا، ومن فضل ربى علىّ أنى أحترم نفسى فى هذا الدور, فلا أترجى أحدًا إلا الله، ولا أحد يستطيع أن يعتذر عن الإسلام.
- ما هو رأيك فى الرئيس المخلوع حسنى مبارك؟
أظن أن مبارك حبس واعتقل بلدًا بالكامل، وصادر عليهم حقوق الكرامة والعزة والحرية وليس على واحد بعينه, أو على الأعداد الغفيرة التى أدخلها السجون فقط بل على الشعب كله, كما "رهن" هذا البلد كرهينة فى أيد أعدائه، "ببقشيش صغير جدًا"، كان يدفع له فيسير لعابه عليه لينفذ كل ما يطلب منه بكل همته التى لو كانت وجهت لخدمة مواطنيه لأصبحنا فى أحسن حال وكنا شكرناه على ذلك, ولكنه كان لا يعتبر نفسه رئيس المصريين، بل سيفًا مسلطًا عليهم من أمريكا وإسرائيل، فهو وضعنا جميعًا فى حالة "رهان" لقوة عدوه ومنع مصر من الوصول لأى مخطط حضارى والتى هى أهل له فى المنطقة العربية لما لها من تاريخ وموقع جغرافى مميز بين دول العالم, ومن كونها بلدًا قائدًا وزعيمه يشيد بها العالم كله إلى دولة متخلفة.
فمبارك كان رجل "سوء" ولا أجد تعبيرًا مباشرًا لأقوله عليه، فهو "لص سرق مستقبل شعب, وضيع مستقبل أمة بالكامل فى العالم المعاصر بشكل مزرى", وجلب الخراب لهذه البلد فقد كان بمثابة "عسكرى المراسلة" بين إسرائيل وأمريكا، وخاصة فى قضايا الصراع العربى الإسرائيلى وتحديدًا فى القضية الفلسطينية.
- هل تعتقد أن مبارك تاجر بقضية الإرهاب للحفاظ على بقائه فى السلطة 30 عامًا؟
نعم بالفعل قام مبارك بالمتاجرة بقضية الإرهاب، وذلك من أجل بقائه فى السلطة طوال هذه الفترة ولمدة 30 عامًا وترسيخ زعامته فى المنطقة كحامٍ لها من شرور الإسلاميين أمام الحضارة الإنسانية المعاصرة والحضارة الغربية بصفة خاصة، فقد كان يصور لهم المسلمين كأنهم فى خزينة وهو معه المفتاح, حتى لا يخشوا شيئًا منهم ودائمًا كان يطلب المساعدة من الغرب للاستمرار والبقاء من أجل تخليصهم من هذه الشرور, حيث كان يتصور أن حكم مصر سلسلة من الخديوية له ولأبنائه وحفدته، لذلك كان حزينًا جدًا عند موت حفيده محمد علاء مبارك، مثلما كان يحدث فى عهد الملكية كما أنه استبعد الشعب كله، وكأنه ليس له حق فى البلاد لا فى الحكم ولا فى السياسة ولا فى أى شىء وهى نفس النظرية التى كان يتبناها "الفرعون"، فهو الآن يجنى عاقبة الفلسفة الفاسدة التى تبناها وأحبها, فى أن يطلق على المسلمين إرهابيين وأتقن هذا الدور للتعظيم من أهميته فى المنطقة، لأنه كان بلا مشروع سياسى.
- ماذا تقول لشباب الثورة اليوم بعد ثورة 25 يناير العظيمة؟

أقول لهم: سيروا على نهج الثورة ولا تيأسوا من الأحداث الجارية اليوم، فكل ثورة لها أعداؤها من الثورة المضادة ومخططات فلول النظام السابق, وأرى أن على شباب الثورة التمسك بعزل رموز النظام البائد جميعًا مثل ما حدث فى الثورة الروسية والفرنسية، وأن يستيقظوا لمؤامرة المجلس العسكرى والأجهزة الأمنية لإعادة إنتاج النظام السابق من جديد ولكن بأشكال مختلفة من نفس الفصيل السابق لحماية مصالحهم المشتركة فى البلد, وأن يواجه الشعب الثورى ما يسمى بالحكومة الخفية أو "اللهو الخفى والطرف الثالث" الممثل فى هاتين الجهتين للقضاء على ثورة 25 يناير وإبادتها من على أرض مصر, وأن ينتبهوا جيدًا للدور الخفى من الخارج والممثل فى أمريكا والتى دائمًا ما تلبس أقنعة مختلفة باسم حقوق الإنسان والديمقراطية والتى لا تمارسها، والأمثلة واضحة فى العراق وأفغانستان, لذا على شباب الثورة أن يعوا جيدًا ما خفى من أحداث وأن يحسن التصرف بعقل واعٍ لما تفعله أمريكا وإسرائيل بالتحديد، لاستعادة رجلها من النظام السابق فى مصر مرة أخرى ومحاولة القضاء على الثورة وإجهاضها

إقرأ أيضا : القصة الرابعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق