القصة السادسة عشر



من مذكرات خالد حربى 
محمد أبو حسين

حين أقتادني الحارس إلى زنزانة رقم 6 بعنبر 9 في معتقل الفيوم كنت أجهل أني سأرى للمرة الاولى الطبيعة تجسدت في شخص بصورة نادرة ...محمد حسين أبو حسين شاب من الريف تجسدت فيه ملامح الريف المصري بكامل تفاصيلها ..الطيبة والعفوية والسخرية والتطلع والأمل والمرض والمأساة أيضا
ملامحه البسيطة تحمل طابع هذه الريف.. وجه مستطيل أبيض مشرب بسمرة الشمس عينان جاحظتان خضروان بلون القرية ...فمه واسع يقذف الضحكات بتلقائية وكأنه ينثرها على رؤوس المحطين به ..صلعة خفيفة في مقدمة الرأس تعكس الاجهاد وضعف التعذية ...شخصية نبيهة وطيبة وبسيطة وعفوية.
كان أبو حسين نابغة في الدراسة فرغم سنوات اعتقاله الطويلة إلا أن المناهج الدراسة ما تزال محفورة في ذهنه فقد كانت همه الوحيد قبل اعتقاله حيث حلم يوما أن يصبح مهندسا لكن الطغاة استكثروا عليه هذا الحلم ..فقد أعتقل محمد قبل امتحان الثانوية العامة بأيام قليلة حين وشى أحد المخبرين لأمن الدولة أن محمد من المنتظمين في صلاة الفجر ..فخاف الضابط أن يسري هذا بين الشباب ويشكل نواة لتجمع اسلامي جديد في القرية فأمر باعتقاله !
وفي المعتقلات لا كتب ولا مناهج ولا امتحانات لكن محمد لم يكفر بحلمه يوما فظل يقضى وقته ووقتنا كذلك في حل المعادلات الرياضة وإعراب الجمل العربية وترجمة الكلمات الإنجليزية ...كان يفعل هذا عن هواية وحب ..وكانت ترتسم على فمه الكبير ابتسامة سعيدة حين يُسئل عن نص في منهج دراسي لمرحلة تعليمية أيا كانت ويمكنه أن يقضى الساعات الطويلة في شرح هذا المنهج وتذكر مسائله وأبوابه.
وفي المساء نتحلق سويا لنتسامر حول الدنيا التي خلفناها وراء ظهورنا ..كان محمد بارعا في نقلنا لأجواء القري والنجوع حيث النميمة المضحكة وقصص العفاريت والبورتريهات الساخرة لأعلام القرية والتي يرسمها بعبقرية تجعله أول الضاحكين عليها لذلك كنا نلقبه بـ "فلاح كفر الهنادوة"
وحين ينتصف الليل تبدأ معاناة محمد مع "الربو " فقد كان منهكا من الربو المزمن منذ الصغر وتفاقمت مشاكله بسبب انعدام التهوية داخل زنازين المعتقلات .
على مدار الليل الطويل يظل محمد ينازع للبحث عن نسمة هواء ..وبين نافذة الباب وبخاخة الربو يقضى المسكين لياليه المتشابهة في الأنينِ والسعال .
كان النوم يعافني وأنا أبصره يصارع وينازع وحده بينما باقي المعتقلين يغطون في النوم ولم يكن من سبيل لمساعدته سوى بالدعاء وحسب حيث لا طبيب وهواء ولا دواء سوى تلك البخاخة التي نوفرها له بثمن باهظ وبطرق معقدة ... عرضت عليه أن أحمله على كتفي حتى يقترب من النافذة في أعلى الجدار عله يجد نسمة هواء فشكرني ورفض وأخبرني أن الطغاة قصدوا أن تكون النوافذ كلها في عكس اتجاه الريح حتى لا نجد نسمة هواء ترطيب علينا مرارة السجن .
وحين كلّت قدمه من الوقوف على نافذة الباب جلس ممكسا ببخاخة الربو ونظر إلىَّ في الطرف المقابل من الزنزانة قائلا : خلاص يا أبو عمر ..سامحني وقول للإخوة لما يصحوا يسامحوني شكلي مش هلحق أصلى معاكم الفجر .
عجز لساني أن يجيبه بشيء ..فأنا بالفعل أشاهد شخصا يحتضر ولا تسعفني بديهتي لمجاملته ..وحين أقترب بزوغ الفجر بدأت نسمات الهواء البارد تقترب وتلاشى ذلك الصهد الذي تصب الجدران الخرسانية فوق رؤوسنا وبدأت زرقة وجهه الشاحب تبهت شيئا فشيئا .
مرت عليَّ ليالي كثيرة وأنا اشاهد فيها هذا الشاب الصغير يتلوى من الألم ويزرق لونه إختناقا ..فاذا تنسم هواء الفجر عادت له روحه .
في أحدى اليالي من شهر يوليو لم يكن هناك هواء لنتنفسه نحن الاصحاء و الجدر الخرسانية تصب على رؤوسنا حمم ملتهبة طيلة الليل ..ظننت ليلتها أن محمد أبو حسين سيموت وظللت أراقبه طيلة الليل وهو ينازع حتى أذن الله بنسمات الفجر فأعادت له ولنا الروح
كنا لا نستطيع النوم من شدة الحر وارتفاع الرطوبة إلا خلال الساعات الاولى من النهار قبل أن تشتعل الجدران لهبا تحت حرارة الشمس .
وفي الساعة الثامنة صباحا استيقظت فزعا على جلبة ونقاش حاد في الزنزانة فوجدت محمد وبعض إخوانه القرويين يتجادلون بأصواتهم العالية دائما حول وجبة العدس التي احضرها الحارس ساخنة منذ قليل ..هل يوقظون الإخوة لينعموا بهذه الوجبة الساخنة أم يتركونها حتى يستيقظون ؟
لم اتملك نفسي وقتها من الغضب ..صرخت فيهم " عايز أنام يا فلاحين يا ولاد الذين ..التفتُ لمحمد : أنت يا أبني مش كنت بتموت بالليل ..أول ما دبت فيك الروح بتتخانق معاهم على شوية العدس.... يا جعانين !
أنفجر محمد ورفاقه في الضحك ولم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك مع تلك القلوب البيضاء التي لا تعطي للأشياء حولها أهمية .
وفجأة فتح الباب وطلب الحارس مني أن أخرج لأني حصلت على حكم قضائي بالإفراج عني .
حين هممت بوداعه قال وهو يحبس دموعه: لعلنا لا نلتقي ثانية إلا يوم القيامة فسامحني ولا تنساني من الدعاء ..تألمت من كلمته ..صعب أن يعيش المرء ينتظر الموت كل ليلة في غربة عن أهله.

كعادة أمن الدولة في تنفيذ الإحكام القضائية كانت تحتجزني في أحد فروعها لمدة يومين وتكتب مذكرة جديدة فيها أنه تم الافراج عني التزاما بأحكام القضاء وبعد خروجي تمت مراقبتي وثبت لديها أني بكل فجور عاودت نشاطي المتطرف مرة أخرى بعد أقل من 24 ساعة من خروجي فتشكلت فرقة من العمليات الخاصة القت القبض عليّ وصدر قرار من وزير الداخلية باعتقالي مجدداً !
بعد ثلاث سنوات من تكرار هذه المهزلة كنت في معتقل دمنهور حين أصيب "أسامة" أحد المعتلقين معنا بألم في القلب فتم نقله لمستشفي السجن حيث كان وقتها يسمح للحالات الخطرة بالإسعاف الطبي داخل المستشفي طبقا لسياسة التهدئة التي فرضتها مبادرة الجماعة الإسلامية .
في اليوم التالي عاد أسامة إلى الزنزانة وعيناه ملتهبتان من البكاء
وقص علينا جريمة أخرى من جرائم اللواء أحمد نبيل طبيب مصلحة السجون وصاحب الرقم القياسي في قتل المعتقلين
يقول أسامة : حين دخلت لمستشفي السجن كان بها ثلاث حالات غيري كلها في الرمق الاخير ..احضروها لتموت في المستشفي حتى يكتب في محضر النيابة أنه تم توفير الرعاية الطبيبة اللازمة لهم
احدي هذه الحالات كان أخ من الصعيد مصاب بتليف في الكبد وأخر من الصعيد أيضا مصاب بالدرن "السُل" وثالث مريض بالربو وموضوع على جاهز التنفس الصناعي .
مباشرة قفز اسم محمد ووجه أمام عيني حين سمعت كلمة الربو ..سألته متلهفا :ما اسم هذا المريض ..قال محمد أبو حسين ..قلت لا حول ولا قوة الا بالله ...مسكين هذا الشاب .. ذُهل أسامة وسألني هل تعرفه ؟..قلت نعم
.. كيف كان حين تركته .؟
لم يجب .. خفض رأسه وهطلت عيناه من جديد ..يالله ..وجع بحجم السماء هبط على قلبي .. شعور عميق بالوحدة ..شعور عميق أن حياتي لحظة يبن موت وموت ..الموت دائما يأخذ الأشياء الجميلة ويترك في القلب وجعا يدوِّي .. تهزُّني رغبة جارفة بالبكاء والنشيج.
سالته كيف حدث هذا ؟
فقال في الساعة الخامسة قبل أن يتم اغلاق جميع أبواب السجن..مر اللواء أحمد نبيل طبيب السجن على المرضى وكعادته كان يسب ويلعن ويركل كل مريض يوقع الكشف عليه وحين وضع يده على محمد قال للممرض: " الواد ده خلاص..أرميه على الأرض "
يقول أسامة : وعلى الارضية الباردة كان محمد منكمشاً متيبسا يرتجف ويهذي وعيناه ساهمة إلى نافذة الحجرة ...وضعت وسادة تحت رأسه ومسحت الزبد عن فمه ...أخبرت الممرض أن أطرافه باردة متيبسة ..فرد بلا اكتراث : زميلك بيخلص مش هيطلع عليه الصبح ..ادعليه بقه !!
يقول أسامة لساعات ظللت بجواره أمسح الزبد عن فمه والدمع عن عيني ..امسكت بيده ونفخت فيها لتدفئ وضعت بطانية على قدمه...أرحته على جنبه الأيمن ووجهته باتجاه القبلة ..كان يحتضر بين يدي ولا أملك له شيئا سوى البكاء والاستغفار ..كان غائباً عن الوعي لايدرك ما حوله .. كان يهذي بأمه ويحدثها كأنها حاضرة أمام عينيه ..يعتذر لها عن غيبته الطويلة يبشرها أنه سيبقى معها للأبد ..ثم يغفل قليلاً فيظن أنها ابتعدت عنه فيناديها ويستعطفها ويبكي لها الا تفارقه بعدما حرم منها لسنوات طوال !
يقول أسامة : كنت مرتبكا مذعورا وكان باقي المرضى شاخصين إلي محمد وكأنهم يرقبون ما سيحدث لهم بعد قليل ..قال أحدهم: لقنه الشهادة ..فاقتربت منه ولقنته الشهادة لكنه كان مايزال يخاطب أمه ويطلب منها البقاء بجانبه ..انحنيت على أذنه ورفعت الاذان فهدئت نفسه ثم نظر إلىّ بعيون يتلألأ فيها الدمع ...لقنته الشهادة فرددها خلفي ..كان يدرك وقتها أنه يرحل ..حين نظر لوجهي حاول أن يبتسم فعجز ..فأحطته بذراعي وأنا انتحب ... أنتبه لبكائنا حوله ثم عاد يهذي بأمه.. قال أمي لا تبكي أنها تغني لي كي أغفو الان .. لا ضرورة أن أموت الليلة ..سأبقى بجانب أمي ...أخذته سكرة ثم أهتز جسده النحيل ..وقذف الزبد من فمه ..ثم أرتخي تماماً وبصره ساهم للسماء وفي عينه دمعة متحجرة ... هززته عسى أن تعود إليه الروح ..لكنه كان قد رحل و روحه عالقة برداء أمه .
بكيت كنائحة ثكلى ليس في جعبتها إلا الدموع وأطياف الراحلين
قساة أولائك الراحلون لأنهم يُفخّخون ذاكرتنا بهم بملامحهم ، بتفاصيلهم ، بأصواتهم ، بتلك الضحكات الغائبة عن مرمى الحواس ..!!
ونحن في غيابهم بلا حيلة.. نبكيهم بدمِ القلبِ تارةً وبدمعِ العينِ تارةً أخرى ..
ما عسانا نفعل ..!
أنرثيهم أم نرثي أنفسنا ..؟

إقرأ أيضا : خالد حربى معتقل عبر العصور (1)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق