مطبخ الزنزانة والمطبخ العام



مطبخ الزنزانة والمطبخ العام

وكما كان هناك مطبخ فى كل زنزانة كذلك كان هناك مطبخا عاما للعنبر مقره فى احدى الزنازين المتطوعة لذلك يقوم كل اخ بارسال طعام زيارته الى المطبخ العام بعد اخذ الاشياء الخاصة به بحيث يجتمع الطعام من سائر زيارات اليوم فى المطبخ العام ويتم توزيعه على الزنازين وفق جدول دورى يتم تصنيف انواع الطعام فيه زنزانة رقم كذا دورها اليوم فى الارز وزنزانه اخرى دورها فى الطبيخ وواحدة دورها فى اللحوم كنوع من التكافل الاجتماعى حيث ان هناك بعض الزنازين لم يكن يزور فيها الا القليل من الافراد وبعض الزنازين ربما تجلس شهرا كاملا دون ان تاتيها زيارة او ياتيها طعام ملكى فكان نظام التكافل فى المطبخ العام يضمن ان لا تشبع زنزانة وتجوع اخرى فكان الاخ المعتقل ياتيه الطعام من اهله وربما فى هذا اليوم لا ياكل الا القليل من زيارته لان دور زنزانته لم يحين بعد ومع هذا يكون الاخ سعيدا راضيا ان اخوانه الذين ربما لم ياتيهم طعاما طيبا من فترة طويلة سياكلون من طعام اسرته
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا )
وكان يتم نقل الطعام من كل زنزانة الى زنزانة المطبخ العام والعكس فى الفترات التى يكون هناك فسحة التريض اما سنوات القفل التى لم يكن يسمح فيها بالخروج من الزنزانة فكان يتم نقل اكياس الطعام عن طريق نافذة باب الزنزانة بارجحة الحقائب من باب لباب ام عن طريق جسر من الحبال خارج نافذة الزنزانة وسحب حقائب البلاستيك عليه والتى كانوا عادة ما يمرون كل فترة على النوافذ من الخارج لتمزيقه او عن طريق ثقوب الحائط او بالتعامل مع الشاويشية ورشوتهم بوجبات اللحم او الدجاج او المبالغ المالية وكان الاخوة الذين يقومون فى زنزانتهم بدور المطبخ العام يحتسبون عند الله اوقاتهم وجهودهم وهم سعداء انهم سيكونون سببا فى اطعام اخوانهم وكذلك كان المطبخ العام يراعى الحالات المرضية والاطعمة المناسبة لها ويجهز وجبات خاصة لهؤلاء المرضى او تغذية مضاعفة لمرضى الدرن وسوء التغذية اذكر اننا كنا نجهز الطعام فى حجز لاظوغلى وجاء بعض الاخوة افراج من معتقل الفيوم والذى كانت متبعة فيه سياسة التجويع الشديد اكثر من اى معتقل اخر اذ كانت ممنوعة عنهم الزيارات والاكل الملكى وفى نفس الوقت الجراية ثلاثة ارغفة وليس خمسا فى اليوم وعينات من الاطعمة للزنزانة التى تصل للثلاثين اخ فكنا نقوم باعداد مائدة خاصة لهم فى الحجز ونزيد لهم فى الطعام عن بقية الموائد التى كنا ناكل منها حتى تكون فترة بقائهم فى حجز لاظوغلى فترة نقاهة لعدة ايام قبل ان يعودوا مرة اخرى الى المجاعة اذكر احد اخوة الاسماعيلية الاخ ايمن جاد وشقيقه محمد جاد وكانوا من خيرة الاخوة اخلاقا وسمتا وكانوا من الميسورين بمحافظة الاسماعيلية كانت تاتيهم فى فترات الفتح فى السجون العشرات من حقائب الطعام التى تذهب كلها الى المطبخ العام لينالهم من الطعام فى النهاية مثلهم مثل افقر اخ من المعتقلين كان التكافل والتراحم بين المعتقلين فى الطعام والشراب  من اكبر المعينات ومن اشد وسائل التكيف المعيشية التى مكنت الجميع من الصبر والتحمل وكان شعار المعتقلين حديث الاشعريين
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ اقْتَسَمُوه بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُم
وفى فترة الفتح فى السجون استجابوا لطلبنا فاصبح الطعام ياتى ثمارا غير ناضجة واذا اتى دجاج مرة فى الشهر يكون نيئا ونقوم نحن بتسويته بطريقة سليمة وايضا حدث فى سجن الاستقبال ان سمحوا للاخوة المعتقلين بتولى الطهى بدلا من المساجين الجنائى فتطوع بعض الاخوة فى الخروج لمطبخ لسجن ومن ساعتها وطعام التعيين اصبح احسن حالا وقريبا من طعام الزيارات واصبحنا ناكله بعد ان كنا نلقيه فى دورة المياه واحتسب الاخوة المتطوعون مجهودهم واوقاتهم لخدمة اخوانهم اذكر احد هؤلاء الاخوة  الاخ احمد عبد الوهاب من حلوان وكان من خيرة الاخوة دينا وخلقا وكان طويلا وسيما دمث الاخلاق كان يقوم بتوزيع التعيين على اخوانه فى الزنازين وهو يهرول ليتمكن من التوزيع قبل ان يتم غلق الزنازين رغم كونه مريضا بالقلب واذ به فجاءة يسقط مغشيا عليه وتفيض روحه الى الله وقد ختم عمله فى الدنيا بخدمة اخوانه الاسرى وقد امضى فى الاسر اثنى عشر عاما هو وشقيقه محمد

مدونة عبد المنعم منيب

و أول مشهد إجتماعي يصادفه المعتقل ما يتعلق بالطعام الذى يصرفه السجن بشكل يومى, وهو عبارة عن مقررات محددة يتم صرفها مرتين في اليوم حسب نوعية المعاملة, فعندما تكون المعاملة حسنة يجرى صرف أولهما في الصباح الباكر وتحوى مقررات الإفطار وعادة تكون فول أو عدس ثم يتم صرف الثانية بعد الظهر وتشمل أرز مسلوقا وخضار مطبوخا بالإضافة لخس أو جرجير أو بصل نئ أو نحو ذلك كما تشمل جبن و حلاوة طحينية أو مربى و ثلاثة أرغفة وهذا كله يومى, و يضاف لذلك في يومين في الأسبوع لحم مستورد مسلوق أو بيض مسلوق أو دجاج مسلوق ويكون ذلك في يومى الإثنين والخميس ويضاف أيضا في يومى الثلاثاء والجمعة بيضتين مسلوقتين لكل معتقل أو مسجون.
وفي الواقع فإن هذه المقررات لم تكن بهذا التنوع ولا بهذه الكميات ولكن جرى إصلاح وتحسين لهذه المقررات على مراحل متعددة إستغرقت الستة وعشرين عاما الأخيرة وكان أهمها وأبرزها في صيف 1998م, وذلك بسبب ضغوط الجهات المهتمة بتحسين أوضاع المعتقلين والمسجونين و لكن نقطة الضعف في هذا النظام هو كيفية التنفيذ حيث أنه يتعرض للتبديد والتبذير من يد المتعهد المدنى إلى يد إدارة السجن إلى يد موظفي المخازن إلى يد موظفي المطبخ ثم إلى يد الحراس ثم إلى يد العمال (مسجونون جنائيون في العادة) المسئولين عن توصيله ليد المعتقلين والمسجونين, و طبعا الكل يعرف النكته التى تقول نهايتها أن الرئيس يسلم عليك بينما كان الرئيس أرسل له معونة مادية فتبددت في الطريق حتى لم يصل للمواطن سوى سلام الرئيس دون معونته المادية التى أرسلها بعد أن أخذت كل يد نصيب ما من المعونة المرسلة
التكيف فى الطعام.

فالذى يهمنا في هذا الصدد هو كيف يتعامل المعتقل السياسي مع هذه المقررات من الطعام وفي الواقع فإن تعامل المعتقل السياسي يختلف عن الجنائى في هذا الصدد حيث أن المعتقلين والمسجونين السياسيين يتسلمون مقرراتهم الغذائية بشكل جماعى متضامنين مع بعضهم البعض و متكافلين سواء كانت الكمية صغيرة أو كبيرة و يتناولون طعامهم بشكل جماعى, وهذا على عكس الجنائين حيث عادة ما يتسلمون غذائهم فرادى, ولا يأكلون مع بعض إلا في حدود الصداقات المحدودة أو القرابة إن وجدت, و إلا فلا يأكل كل منهم إلا منفردا.
و يرتبط بهذه النقطة علاقات التكافل الأخرى التى عادة ما تجرى بين المعتقلين السياسيين الإسلاميين وهى تشمل كل المجالات في العادة حيث يخلطون كل الأطعمة الواردة إليهم من أسرهم فيما يسمى بزيارة أسرهم لهم في السجن, فيتم وضع طعام الغنى مهما كان كبيرا مع طعام الفقير مهما كان صغيرا أو رخيصا و يجلس الجميع مع بعضهم البعض يأكلون متساويين لا فرق بين عنى وفقير ولا بين كبير وصغير و لا بين جاهل وعالم ونفس الشئ يجرى في الدواء, فالطعام والدواء عادة ما يوزع على كل محتاج بغض النظر عن من جاء به وهذا في كل الأحوال سواء أحوال الضيق والشدة أو أحوال الراحة والرخاء و أذكر عندما كنا في سجن الواحات (الوادى الجديد) أننا كنا في حالة شدة وضيق و كان غير مسموح بدخول الطعام من قبل أسرنا إلا بكميات ضئيلة للغاية و كنا نوزع الدجاجة الواحدة على ثلاث غرف علما بأن كل غرفة بها عشرين معتقلا على الأقل و الأمر في الدواء كذلك بل أكثر من ذلك حيث كان كثيرون من المعتقلين ذوى اليسار المادى يشترون على نفقتهم الخاصة الدواء للمرضى الفقراء أو حتى الأغنياء الذين كانت أسرهم تتخلى عنهم فلا تزورهم في المعتقل و لا ترسل لهم طعاما ولا مالا ونفس الأسلوب يجرى بشأن المشتروات التى تم شراؤها من كانتين السجن حيث يجرى توزيعها بالتساوى على المعتقلين السياسيين بغض النظر عمن دفع ثمنها, وهذا كله معمول به بإنتظام في حالات الرخاء وفي حالات الشدة يجرى نفس أسلوب التكافل في الملابس و في الكتب أيضا خاصة الكتب الإسلامية.
كما أذكر أيضا بهذا الصدد عندما كنت في سجن إستقبال طرة في أواخر 2004م و أوائل عام 2005م أن جاء معتقلون لقضية جديدة شهيرة و كان عددهم كبيرا وكانوا كما الحال مع كل معتقل جديد ممنوع عليه الإتصال بأهله و ربما لا يعلم أهله مكانه أصلا وبالتالى لا تصله نقود ولا ملابس و لا طعام من أهله, و حينئذ سمحت لهم إدارة السجن بتلقى ما يشاءون من المعتقلين القدامى من في عنبر(ب) و عنبر (د) وكان هؤلاء الجدد يملأون عنبر (ج) حيث كان عددهم نحو 400 معتقل و كانوا بالطبع يحتاجون ملابس و كمية كبيرة وغالية الثمن من الأدوية بالإضافة للبطاطين والفرش, وقد قامت فئات عدة بشراء كل هذا لكل هذا العدد و تكلف ذلك عدة آلاف من الجنيهات دفعها المقتدرون من قدامى المعتقلين الإسلاميين.
كيف عاش المعتقلون السياسيون في الزنازين؟؟ للإجابة عن هذا السؤال نريد أن نتكلم عن الجانب البيولوجى من المعيشة إن جاز التعبير كالطعام و النوم التنفس و ما يتعلق بذلك.و كنا قد أشرنا في الحلقة السابقة عن طرق وصول الطعام للمعتقلين, ونتكلم هنا عن عملية إعادة إعداده وتقديمه في الزنزانة.
و تأتى أهمية إعادة إعداد الطعام من كون مطبخ السجن لا يحسن إعداد الطعام المقدم من السجن إلى المعتقلين والمساجين سواء السياسيين منهم أو الجنائيين و ذلك لسوء الإدارة و الإهمال المتعمد و إهدار الموارد و أيضا بسبب الإعتماد على مساجين جنائيين لإعداد الطعام و هم دائما غير مدربين و غير مهرة و غالبا لا يراعون قواعد الإتقان و لا النظافة, فيحتم ذلك كله إعادة إعداد الطعام بالزنزانة فيما كنا نطلق عليه تحسين الطعام.
المالى المتعلق بمقررات الطعام جعلها في أغلب الأحيان أقل في كميتها من الكمية اللازمة لسد رمق المعتقل فأوجب ذلك إدخال تعديلات على الطعام ليزيد حجمه فيما كنا نطلق عليه تعديل الطعام.أما عملية التحسين المذكورة فكانت تشمل تسخين الطعام بعد تنظيفه و أحيانا يتم غسله مثل أن يكون بطاطس أو باذنجان أو كوسة و يكون عادة قطع كبيرة مطبوخة بقشرها فنقوم بإنتشالها من مرقتها و نقشرها و نغسلها ونقطعها إلى قطع أصغر ثم نعمل لها مرقة أخرى, و نلقى بمرقتها الأصلية في دورة المياه.
أما عملية التعديل فتكون بإضافة أشياء لهذا الطعام كى يزيد, وهذا يختلف من وقت لأخر حسب الظروف, فعندما تكون الأوضاع ميسورة من حيث حسن المعاملة والسماح بدخول أطعمة من خارج السجن على نفقتنا فإن عملية التعديل لزيادة الطعام تتخذ شكل إضافة طعام من نفس جنس الطعام الموجودأو من نوع مناسب له كما إن التحسين نفسه يتم بإضافة أشياء ذات قيمة للطعام مثل التوابل و بعض اللحم أو نحو ذلك أما عندما تكون الأوضاع غير مناسبة أى عندما يوجد منع أو تضييق في مجال دخول الطعام من خارج السجن فإن عملية التحسين والتعديل تتخذ شكلا أكثر تواضعا لدرجة أن العمليتين كانتا في كثير من الأوقات تقتصران على إستخدام الماء في الغسل والتنظيف أو النقع في الماء لتقليل الملوحة الزائدة الموجودة بالطعام وبإلقاء هذا الماء نكون قد حسنا الطعام ثم نأتى لعملية التعديل كى نزيد كمية الطعام و كانت قاصرة أيضا على إضافة الماء فمثلا بالنسبة للجبن نذيب قطعة جبن وزنها يتراواح بين 50 و 100 جرام في كمية ماء لنصنع منها ماءا أبيضا كالشرش يملأ ثلاث أو أربع أطباق ثم يقدم كل طبق لمجموعة من المعتقلين يتراوح عددهم بين أربعة و سبعة ليأكلوه بالخبز.
ونفس الشئ كان يجرى بشأن الحلاوة الطحينية بنفس الطريقة حيث يتم إذابتها في الماء بنفس المقادير المذكورة و كذا الفول والعجوة والعدس.
وللقارئ أن يتعجب من ذلك و يتسائل كيف عشانا سنوات طويلة على هذا الطعام القليل الحقير لأننى أنا نفسى أتسائل عندما أتذكر هذه الأيام هذا السؤال كيف عشنا بهذه الطريقة و كيف تحملنا هذه الأوضاع و لكن رحمة الله وسعت كل شئ, ولو لم أعش مثل هذه السنين لما إستطعت أن أتخيل وقوع مثل هذه الأحداث بمثل هذه الطريقة.
لكن هذا لا يعنى أننا كنا نتمتع بصحة جيدة بل بالعكس, فأنا شخصيا أخر مرة صمت رمضان في هذه السنين كنت راقدا طول النهار و لا أكاد أقوم إلا للصلاة وقلت لنفسى لو لم تتغير الظروف فلن أستطيع صيام رمضان المقبل بل ربما مت قبل هذا بسبب الجوع الذى كنا نعيشه.
و في غير رمضان لم أكن أستطيع إستجماع قدراتى العقلية لمراجعة القرآن من الذاكرة أو بعض متون كتب العلم أو الأحاديث إلا بعيد إستيقاظى من نوم إستغرق عدة ساعات و يكون إستجماع هذا التركيز العقلى قاصرا على ساعة واحدة ثم أحتاج بعدها للنوم مرة أخرى لعدة ساعات و هكذا.
و أيا كانت حالتنا الصحية فقد كانت الحياة تسير و كنا ننظم حياتنا وفقا لظروفنا فى محاولات متفائلة جدا لتحسين هذه الحياة
ومن هذه النظم التى سارت عليها حياتنا في المعتقلات أن يتولى إعداد الطعام وتقديمه شخص له معرفة ما في هذا المجال و أن يستمر فى عمله هذا يوميا إلى ما شاء الله فلا ينعزل إلا إذا إختار أفراد الزنزانة عزله أو إختار هو أن ينعزل أو تم نقله إلى زنزانة أخرى, وكان هذا الدور مستقرا لحد كبير لقلة من لديه القدرة والصبر وطاقة العمل اللازمة للقيام بهذا الدور لأنه يقوم بخدمة الناس كل يوم في هذا المجال كما أنه قد يتعرض لإنتقادات أو إقتراحات تفوق طاقة الكثيريين على التحمل فضلا عن أنه يعمل كل يوم لعدة ساعات يتعطل فيها عن تلاوة القرآن أو تلقى العلم ونحو ذلك من الأنشطة التى كانت سائدة في الزنازين و يسمى صاحب هذا الدور أو هذه الوظيفة باسم مسئول المطبخ, كما يقوم بمساعدته شخص يتغير كل يوم و هذا الدور المساعد يسمى صاحبه " نبطشى" وكان المعتقلون السياسيون الإسلاميون يختارون شخصا فيما بينهم ليكون بمثابة رئيس للزنزانة و كان هذا الرئيس يجرى إنتخابه بالأغلبية وتكون مهمته
إدارة شئون الزنزانة بتنفيذ ما إتفق عليه أغلبية نزلاء الزنزانة بشأن سائر أمور المعيشة من الأكل و الشرب والنوم و الإستحمام و غسل الملابس و نحو ذلك كمواعيد إطفاء النور و إضفاء الهدوء و الدروس العلمية إن وجدت و الصلاة سواء الصلواة الخمس أو قيام الليل و غير ذلك.
و كان من أهم مهام مسئول الزنزانة (رئيس الزنزانة) الإشراف علي مسئول المطبخ و على قيامه بمهامه بشكل جيد و فعال و كذا الإشراف على النبطشية (أى مساعد مسئول المطبخ) و كان هذا النبطشى بجانب مساعدته لمسئول المطبخ فإنه يقوم ببعض أعمال النظافة بالزنزانة مثل كنس الزنزانة وغسل أرضية الركن الداخلى للزنزانة وهو الذى يتم تجهيز الطعام به و خزن بقايا الطعام إن وجدت بقايا كما يغسل الأوعية (الأطباق و العلب) إن وجدت أوعية أصلا.
و كان كثير من المعتقلين يتسابقون للقيام بهذا الدور تطوعا في غير دورهم, و كان يوجد سباق في حجز أسابيع و أيام شهر رمضان من قبل دخول الشهر للقيام بهذا الدور تطوعا كأنه صدقة في رمضان, و كانوا نشطاء في هذا, و مع ذلك و بجانبه كانوا ينشطون في تلاوة القرآن جدا في رمضان و أذكر أحد الأخوة اسمه (محمد ع) أصر أن يقوم بدور النبطشى أخر ثلاثة أسابيع في رمضان, و كان بجانب ذلك يتلو أكثر من 15 جزءا من القرآن يوميا.كما أذكر أن أحد الأخوة واسمه (جلال ع) كان مسئولا للمطبخ في زنزانة و تطوع أن يقوم بجانب ذلك بدور النبطشى طوال شهر رمضان بشأن السحور, فكان ينام بعيد صلاة العشاء مباشرة ثم يستيقظ بعد الحادية عشرة مساءا فيصلى قيام الليل إلى نحو الثانية صباحا, ثم يقوم يجهز السحور ثم ييقظنا جميعا حتى نتسحر قبيل أذان الفجر, وذلك دون مساعدة من أحد بعكس ما يقتضيه نظام الزنازين حسبما ذكرنا من مساعدة النبطشى له في عمله في الطعام
ورغم أن نظام النبطشية كان نظاما ثابتا و دوريا إلا إنه كان له إستثناءات عديدة ذات دوافع إنسانية, فمن ذلك أنه جرى العرف فى أكثر الزنازين أن من تعدى عمره أربعين عاما فإنه لا يقوم بدور النبطشية و هذا في أول الإعتقال ولكن بعد ذلك مع طول المدة و تقدم الجميع في العمر بدأ يتلاشى هذا الإستثناء.
كما كان يعفى منها المرضى المزمنون نهائيا.أما أصحاب الأمراض العرضية فكانوا يعفون منها إلى أن يتم شفاؤهم نهائيا.
وعندما عملت إضرابات عن الطعام لمدة طويلة كان الأخوة المعتقلون معى في الزنزانة يغسلون لي ملابسى و يساعدوننى على دخول الحمام و يحملوننى مسافة طويلة إلى مبنى مستشفى السجن أو مبنى إدارة السجن عندما كانت الإدارة تفاوضنى لفك الإضراب, و كنت أضربت عن الطعام إضرابات عدة بلغ أحدها خمسين يوما و ثان ثلاثين يوما و أخر 25 يوما.
وعندما كنت أمتحن في العام الماضى أصر أحد المعتقلين على تولى إعداد الطعام لى و غسل الأطباق لى حتى أنتهى من الإمتحان لا سيما أنى وقتها كنت مريضا بالإنزلاق الغضروفى, و حالتى صعبة جدا لعدم توافر أى علاج أو رعاية صحية بالمستشفى التى كنت مقيما بها (مستشفى ليمان طرة) و كان هذا الأخ المعتقل الذى أصر على ذلك يكبرنى بأكثر من عشر سنوات.
و لم يك التكافل بالمال أو بالجهد بين المعتقلين في أوقات التضييق والشدة فقط بل إستمر عندما تحسنت المعاملة بالسجون, فعندما سمحوا بدخول الثلاجات وبعض الأجهزة الأخرى (كالتلفزيون و الراديو والغسالة الكهربائية) و كان طبعا أهم هذه الأجهزة الثلاجة حيث يمكننا فيها خزن الطعام من يوم الزيارة لعدة أيام أخرى لا تأتى فيها زيارة الأسرة, و حينئذ تبرع عدد من أثرياء المعتقلين و أحضروا على نفقتهم الخاصة عددا من الثلاجات الضخمة بحيث تكفى كل ثلاجة عددا من الزنازين و قد أحضروا أعدادا تكفى السجن كله و حدث ذلك أمامى في معظم السجون, كما البعض بالتبرع بمجهوده بجانب التبرع بماله في ذلك الشأن و على سبيل المثال فقد كان هناك طبيبا ثريا بسجن إستقبال لم يكتف بإحضار عدة ثلاجات على نفقته بل بعد ذلك عندما جاء فصل الصيف إشترى عدة ثلاجات أخرى (غير الأولى التى سبق و اشتراها) و خصصها لعمل ثلج في أكياس و قام بتوزيع أكياس الثلج هذه بنفسه على جميع الزنازين بالتساوى, و كان يعد أكياس الماء بنفسه و يضعها في الثلاجات, و قد تطوع إثنان أخران لمساعدته في ذلك.و من الجوانب التى جرى فيها التعاون بين المعتقلين في كل الزنازين جانب النوم حيث أن الغرفة لا تتسع إلا لخمسة أو ستة على أقصى تقدير لكن وصل تعداد نزلاء كل منها ما بين 20 إلى 60 نزيلا, ولم يكن العدد يقل في أحسن الأحوال عن 15, ولزم لذلك التعاون في ترتيب أوضاع النوم, فكنا كلما قل العدد ألى ثلاثين أو أقل كلما أمكن النوم متلاصقين لكن مع إختلاف إتجاه الرؤس و كان يتحتم حينئذ توزيع و تحديد أماكن النوم بمعنى تحديد المساحة المسموح لكل شخص أن يشغلها و لايتعداها بأى حال و كان يتم قياس ذلك بالسنتيمترات (غالبا بالأصابع أو بخيط أو نحو ذلك).
وهناك أماكن تؤذى النائم فيها مثل بجانب و أمام دورة المياه بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها و مثل خلف الباب بسبب البرد القارس المنبعث من حول حلق الباب في الشتاء.
ولكنها أمور نسبية و كان هناك دائما من المعتقلين من يتطوع للنوم في الأماكن الغير مرغوب فيها أو التى بها أذى كى يفسح لبقية إخوانه الأماكن الأخرى )

                                                        إقرأ أيضا : وسائل مقاومة البرد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق