صمود فى مواجهة الإعدام
من كتاب
حسن على
كان الجميع
يتوقع أحكام قاسية وشديدة وأنها جاهزة للحظة النطق بها وأن هذه المحاكمات لا تهدف
إلا للاستهلاك الإعلامي فقط، لذلك أرادوا استغلال هذا التكثيف الإعلامي عند نزولهم
جلسات المحكمة كل قرار على حدة فكان البعض يتحدث أمام القاضي وفي حضور وسائل
الإعلام والأهالي الذين جاءوا ليتابعوا وقائع المحاكمة ليشرح القضية الأساسية
والتي يحاكمون بسببها وهي مطالبتهم بتحكيم الشريعة الإسلامية.
ولقد عضد
أحد المحامين موقفهم في شرح هذه القضية فألقى مرافعته في البداية عن وجوب تحكيم
الشريعة الإسلامية وأن هؤلاء مطالبتهم متوافقة مع أحكام الشرع وأن النظام هو الذي
خرج على أحكام الشريعة وأن الدستور يقرر أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وقد
طالب محامي آخر في القرار الأول من وجدي الليثي القاضي العسكري بإحضار أحد من
علماء الأزهر لمناقشة هؤلاء في معتقداتهم لأن خلافهم مع النظام هو خلاف فكري بالأساس
ولكنه رفض ذلك.
كما أنه
من حين لآخر وخاصة في وقت الاستراحة أو قبل دخول القضاة يقوم أحد الإخوة بإلقاء
خطبة يشرح فيها ضرورة تمسك الناس بدينهم وأن البلاء سنة الأنبياء وأن الصراع قائم
إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل، كذلك يقوم أحدهم أيضا بإلقاء بعض
الأناشيد الحماسية فكان خويلد ومحمد فتحي في القرار الأول يقومون بذلك وكذلك محمد
نور في القرار الرابع حيث ألقى في أحد المرات من داخل القفص أحد الأناشيد الحماسية
والذي يقوله مطلعه:
صامدين
على درب الكفاح *** صامدين وبنمشي على الجراح
وكان
الجميع من داخل القفص يرددون معه في حماس شديد مما جعل بعض الحاضرين يبكون تأثرا
من هذا المشهد وكان هذا الموقف يتكرر مع القرارات الأخرى.
كما
كانوا يرتدون في المحكمة بعض الفانلات مكتوب عليها شعارات إسلامية تلخص أهدافهم
ومطالبهم مثل الإسلام قادم وغيرها وكذلك كانوا يهتفون أثناء الذهاب والعودة إلى
المحكمة من داخل سيارات الترحيلة والتي كانت تسير كموكب تحيطه حراسة مشددة وأحيانا
أخرى يخرجون الفانلات المكتوب عليها الشعارات من شباك السيارة أثناء الطريق فكان
الناس يلوحون لهم بأيديهم تعبيرا عن تضامنهم معهم حتى إن بعض النساء كانت تبكي عندما
تسمع هتافاتهم والسيارة تسير، كذلك كانوا يستغلون رغبة وسائل الإعلام في التحدث
معهم فيشرحوا لهم أهدافهم فعندما سألت إحدى المراسلات أحد الإخوة بعد النطق بالحكم
عن رأيه في الأحكام – وكان هذا الأخ قد حكم له بالبراءة – فقال لها نحن لا نرضى عن
هذه الأحكام مهما كانت حتى لو كانت أقل بكثير لأنها تخالف شرع الله ونحن لا نرضى
إلا بأحكام الشريعة وعندما سألت آخر حكم عليه أخبرها أن السجن ما هو إلا مرحلة
وأننا سنواصل المسير وسنواجه الذين يقفون في طريق تطبيق أحكام الشريعة وغير ذلك من
اللقاءات الصحفية والتي تكون غالبا في وقت الاستراحة، وكان بعض الإخوة وخاصة
المتوقع لهم الحكم بالإعدام يرتدون البدلة الحمراء أثناء المحاكمة من عندهم لكي
يوصلوا رسالة للقاضي وللنظام أنهم لا يهابون الموت وأن حياتهم رخيصة في سبيل دينهم
قبل
النطق بالحكم كان بعض الإخوة المتوقع لهم الإعدام يذهبون من عنبر لآخر في السجن
ليسلموا على باقي الإخوة والذين قضوا معهم هذه الأشهر القليلة السابقة فكانوا
يودعونهم الوداع الأخير وفي كل مكان يذهبون إليه يحتفلون بهم ويودعوهم، فعندما ذهب
خويلد ومحمد فتحي ومحمد عبد الله إلى عنبر 3، وبعد أن جلسوا معهم واحتفلوا بهم جاء
الضابط آخر النهار ليأخذهم إلى عنبرهم حيث يتوجهون في الصباح إلى المحكمة، فتجمعت
أعداد كبيرة في الطرقة المؤدية إلى باب العنبر ليسلموا عليهم فوقف فتحي إمام وأنشد
في هذا الحشد:
لا
تقولوا لقد فقدنا الشهيد *** مذ طواه الثرى وحيدا فريدا
إذا ما
مت فالملائكة حولي *** عند ربي بعثت خلقا جديدا
وكان
الجميع يردد خلفه وهم متأثرون بالموقف وفتحي يواصل حتى وصل إلى نهايته:
فاذكروني
إخوتي في الصلاة *** فاذكروني إخوتي في الصلاة
قالها
وتأثير هذه الكلمات واضحة عليه وهو يكررها وكأنه يريد أن يقول لهذه الجموع التي
سيفارقها لا تنسوا إخوانكم الذين كانوا معكم في يوم ما أن تذكروهم بالدعاء في
صلاتكم. ثم أنشد محمد عبد الله أيضا كل ذلك وأعداد كبيرة تلتف حولهم ويحتضنونهم
ويسلمون عليهم والضابط يستعجلهم للخروج وكلما تذكر كل واحد أن هذا هو الوداع
الأخير يرجع مرة أخرى فيضم كل واحد منهم إلى صدره مرة أخرى وعندما اقتربوا من
الباب أنشد خويلد بصوته الندي:
وداعا
وداعا أيا إخوتي *** غدا سوف نأتي غدا نلتقي
غدا سوف
نرجع أيامنا *** نجدد فيها عرى الموثقي
في تلك
اللحظات الأخيرة كان شريط الذكريات يمر أمام هؤلاء الواقفين خلال هذه الأشهر
السابقة كان لكلمنهم مواقف وذكريات فهذا معروف بمواقفه الطريفة ودعابته وهذا
بهدوئه وهذا بحيائه وهذا بكذا وهذا بكذا وهذا كان يقول كذا وهذا كان يفعل كذا،
كانت ذكريات جميلة وأيام مرت قضاها كل طرف مع الآخر، فعندما كان يتذكر كل واحد هذه
الذكريات في تلك اللحظة وهو ينظر إليهم ليودعهم الوداع الأخير كان ينزف من داخله،
فبينما كل تلك الذكريات تمر كان خويلد مازال ينشد وهو يسير بظهره إلى الخلف في
اتجاه الباب ومعه فتحي ومحمد والباقي يتقدمون إليهم ويلتفون حولهم ويضمهم كل واحد
إلى صدره وكأنهم يعز عليهم لحظة الفراق ويريدون ألا يفارقوهم إلى أن خرج خويلد من
الباب – وهو مازال ينشد فأمسك بالقضبان وأكمل نشيده إلى أن وصل إلى نهايته.
أيا
عنبرا كان فيك اللقاء *** وفيك المحبة فيك الإخاء
وفيك
تجمع شمل الشباب ** فصرت بحق لهم ملتقى
ثم رفع
يده ليلوح لهم بالسلام من خلف القضبان وكذلك فتحي ومحمد فأخذ الثلاثة يلوحون بأيديهم
وينظرون إليهم هذه النظرة الأخيرة وعند هذه اللحظة انخرط الجميع في البكاء الشديد
حتى الضابط لم يتمالك نفسه فبكى من شدة الموقف ثم استداروا واتجهوا إلى عنبرهم وفي
الصباح تكرر نفس المشهد وهم يخرجون ليركبوا سيارات الترحيلة فكان الحزن يخيم على
المكان وكان خويلد يخفف الأمر بدعابته المعهودة وأنشد لهم نفس النشيد ومدحت يمسك
بأخيه محمد وانهار في بكاء شديد وخويلد ينشد لهم وداعا وداعا أيا إخوتي وبعض
الإخوة يصرخ فيه والدموع تنهمر من عينيه لا تقل ذلك إنكم سترجعون مرة أخرى لن
تعدموا وخويلد يلوح بيده وداعا وداعا أيا إخوتي حتى ركبوا إلى السيارة وجلس الجميع
في السجن ينتظر الأحكام من خلال نشرات الأخبار في الراديو، أما سيارة الترحيلة فقد
شقت طريقها في شوارع القاهرة إلى مقر المحكمة في الهايكستب وسط حراسة مشددة وقد
ارتدى خويلد وفتحي وعبد الحميد فانلات حمراء مكتوب عليها مرحبا بالشهادة وقد حضر
عدد كبير من الأهالي ليعرفوا الأحكام وعند بداية الجلسة لاحظ والد محمد عبد الله
عدم وجود ابنه مع الباقين فأخبر القاضي وسأله عنه في هذه اللحظة كان محمد قادم من
الخارج فهتف فسمعه باقي الإخوة في القفص فهتفوا أيضا فارتجت المحكمة من شدة
الهتافات
ثم بدأ
القاضي بتلاوة الأحكام فبدأ بالبراءة وكان عددهم قليل فعلم جميع الحاضرين أن
الأحكام شديدة ثم بالأحكام ثلاثة سنوات وخمسة وعددهم قليل أيضا ثم بدأ بالعشر
سنوات فصرخت إحدى النساء فانفجرت القاعة بالصراخ والبكاء من الأهالي وعند ذلك خرج
القضاة بسرعة من القاعة خشية من ثورة الناس عليهم أما في داخل القفص فكان المشهد
مختلف، فعندما علم المحكوم عليهم بالإعدام سجدوا لله شكرا لأن نفوسهم كانت تتوق
إلى الشهادة وكانوا يحزنون إذا حاول البعض التهوين عليهم والتخفيف عنهم بأن يخبرهم
بأن الأحكام قد تكون بالسجن فقط وليس إعدام كما يتوقون هم فكانوا يقدرون هذه
المشاعر ولكنهم كانوا يتمنون غير ذلك، وبعد الحكم كانوا يبتسمون حتى إن رأفت عثمان
و كان قد حكم عليه بالإعدام أخرج من جيبه حلوى صغيرة كانت معه وأعطاه لأخ كان يقف
بجواره من شدة فرحته.
أما
الأهالي فقد انفجر بعضهم في الصراخ والبكاء واتجهوا إليهم في القفص وكانت
الانفعالات ظاهرة عليهم في ردود أفعالهم فأخذ بعضهم يضرب على السلك ويصرخ هذا ظلم
والبعض الآخر لم يجد غير البكاء حتى إن إحدى الأمهات وقفت تبكي بالرغم من أن ابنها
حكم له بالبراءة ولكنها كانت تبكي تأثرا بالموقف حيث حكم على ثمانية مرة واحدة
بالإعدام هذا غير باقي الأحكام الشديدة، أما أهل محمد عبد الله فلم تتمالك أمه
وزوجته نفسيهما فأخرجهما والده من القاعة ثم ذهب إلى ابنه محمد وهو يحاول أن
يتمالك نفسه في هذا الموقف ليثبته ويبارك له على الشهادة وهو يقول له بانفعال شديد
مبروك الشهادة يا محمد فلم يتمالك نفسه فانهمرت الدموع من عينيه وهو يكررها مبروك
الشهادة يا محمد ولم يستطيع أن يخفي حزنه.
ثم بدأ
الإخوة الأحكام يسلمون على المحكوم عليهم بالإعدام ويودعونهم حتى جاءت سيارات
الترحيلة فأخذت كل فريق إلى سجنه.
كان
الباقي في السجن خلال هذه الفترة يتابعون النشرات والوجوم ظاهر عليهم حتى عرفوا
بالأحكام فاسترجعوا الله فيهم وحزنوا عليهم ودعوا لهم بأن يتقبلهم الله في
الشهداء، كان القرار الرابع في نفس اليوم أما القرار الثاني فكان في اليوم التالي.
كانت
الأحكام في تلك الفترة شديدة وكثر الحكم بالإعدام في القضايا المختلفة فكنا نودع
البعض أثناء خروجه إلى النطق بالحكم ونتوقع أنه لن يرجع مرة أخرى.
أما
القرار الثالث فكان يحاكم في الإسكندرية مع تنظيم التسعة عشر وفي يوم النطق بالحكم
وكان بعد عدة أيام من القرار الأول فتوقعوا أحكام شديدة وقد منعوا دخول الأهالي في
هذا اليوم إلى قاعة المحكمة وقد حكم القاضي أحمد عبد الله على محمد حمودة وهشام طه
– من تنظيم التسعة عشر – بالإعدام وعلى بقية القضية بأحكام مختلفة ثم خرجوا ودخل
بعدها أعضاء القرار الثالث وبدأ في تلاوة الأحكام إلى أن وصل إلى يحيى شحرور فنطق
بالحكم بالإعدام وعند ذلك ثار جميع الموجودين في داخل القفص وحاولوا الخروج
منه لكي
يلحقوا بالقاضي للإمساك به والذي خرج مسرعا من القاعة وقد حاولوا عدة مرات فكانوا
يضربون القفص بأرجلهم وأيديهم ليخرجوا وقد توتر الموقف وسحب الحراس الأجزاء من
سلاحهم الآلي استعدادا للضرب بالرصاص إذا لزم الأمر، ولكنهم لم يبالوا بذلك
واستمروا في محاولاتهم فقام الحراس بتوصيل تيار كهربائي إلى القفص الحديدي ورغم
ذلك استمر الضرب على السلك بالأرجل وتعالت الهتافات فكانت الكهرباء تدفع من يحاول
دفع السلك بقدمه إلى الحائط بشدة واستمر الوضع إلى أن دخل القفص عدد من القوات
لتهدئة الوضع فتوقفوا ثم وقف يحيى شحرور وألقى كلمة أمام المراسلين والصحفيين حث
فيها على الثبات على الدين ومواصلة الطريق وأن الدين لا يتوقف على أفراد وكان يحيى
معروف ببلاغته في الخطابة وحماسه الشديد ثم بدأ الجميع ينشدون له: في جنة الله
نحيا ... في ألف دنيا ودنيا، وهم يسلمون عليه ويحتضنونه ثم خرجوا في حراسة مشددة
إلى خارج المحكمة وكان أعداد كبيرة من الأهالي كانوا في انتظار معرفة الأحكام ولكن
سيارة الترحيلة انطلقت بهم بسرعة فكان الناس يجرون وراءها وكانت بعض النساء تسقط
على الأرض ثم تقوم وتحاول أن تلحق بالسيارة لمعرفة حكم أبنائهم وأقاربهم وكان
الإخوة في السيارة يقولون الأحكام بأعلى صوتهم حتى يسمع أهلهم الأحكام.
قامت
الإدارة بوضع باب حديد في أول المكان الذي يسكنون فيه ووضع أسياخ حديد زيادة على
القديمة حتى يتم عزلهم عن الأحكام الجنائية ولا يختلطوا بهم فيؤثرون فيهم كما قامت
إدارة السجن بتحذير الجنائيين بعدم الاختلاط بالسياسي بل إنهم صوروهم لهم وكأنهم
آكلي لحوم البشر وهو ما وجدوه عكس ذلك عندما تعاملوا معهم.
كان البعض يحاول أن
يختلس حالة الاختلاط الجزئية مع المحكوم عليهم جنائيا ويدعوهم إلى التوبة إلى الله
وخاصة حالات الإعدام حيث إن أيامهم في الدنيا قليلة فمنهم من استجاب وبدأ في
الانتظام في الصلاة وقراءة القرآن، كما كان بعض الإخوة تعد مسابقات عامة وتدعوهم
إلى المشاركة فيها بهدف توضيح بعض المفاهيم الإسلامية البسيطة لهم وعندما لاحظت
إدارة السجن تغير في بعض السلوكيات إلى الأصلح عند البعض خشيت من ذلك فمنعت أي
اختلاط وحذرت منه.
إقرأ أيضا : تضحيات أسر المعتقلين
إقرأ أيضا : تضحيات أسر المعتقلين